أربيل: هكذا جاءت الصورة غامضة نوعاً ما، مضببة قليلاً، غير مفهومة إلى حد كبير: مؤتمر لمثقفين عراقيين قادمين من الداخل والخارج، سيعقد في الربيع المقبل في كردستان العراق. الصورة ذاتها التي تنقلها الصحف والمجلات الأدبية وشاشات التلفزيون ومواقع الإنترنيت العربية: ستمائة مثقف عراقي سيجتمعون في أربيل، شعراء، صحفيون، روائيون، نقاد، رسامون، ممثلون، مخرجون سينمائيون، فلاسفة، سياسيون، مفكرون سيعقدون مؤتمرهم الأول عن حقوق الإنسان والدولة الرشيدة في أربيل الربيع المقبل... الصورة تتضح أكثر كلما اقتربنا زمنياً من دفء الربيع: أربعمائة مثقف عراقي سيغادر العاصمة بغداد ليلتقي بمائتي مثقف قادم من الخارج وسيجتمعون أول مرة في أربيل، تحت عنوان مؤتمر المثقفين العراقيين لمناقشة حقوق الإنسان، الصورة تتسع أكثر فأكثر: ثلاثة أجيال من مثقفي المنفى ومثقفي الداخل سيجتمعون للمرة الأولى في مكان واحد، ثلاثة أجيال فرقتهم المنافي والسياسة والهجرات والإيديولوجيات سيلتقون أول مرة ليتعرف بعضهم على بعض لا من خلال الكتب والمقالات إنما وجها لوجه... يأتي أمر البرنامج لاحقاً وهو الأهم: مائتا مثقف عراقي من أميركا وأوربا يجتمعون في فندق الساند روك في عمان، وفي الفجر ستقلهم طائرة عراقية خاصة إلى مطار أربيل لحضور مؤتمر المثقفين العراقيين لمناقشة حقوق الإنسان، حيث سيلتقون هناك بأربعمائة مثقف قادمين من العاصمة بغداد، ومن محافظات العراق. عودة المواطن في مساء يوم ربيعي من أيام إبريل الذي تنعشه هبات الهواء الباردة، حملت حقيبة جلدية صغيرة على كتفي وانطلقت إلى فندق الساند روك، أقلني التاكسي الأصفر إلى أحد الفنادق الراقية في الضاحية الغربية من العاصمة الأردنية. فجأة أصبحت من مثقفي الخارج، أنا الذي كنت من مثقفي الداخل قبل عامين تقريباً من الآن. لعبة مواقع لا أكثر، مركز يهمش مركزاً آخر، ويحل محله مؤقتاً. وهكذا أدين للحرب التي زودتني بالشك الذي لا ينتهي، والذي منعني من أن يصيبني بالعمى إيمان مطلق، وزودتني برغبة مجنونة بالوضوح، في عالم خلقته الحروب اللاعقلانية والتي تتسم دون شك بالفوضى والغموض. هبطت من التاكسي، وضعت حقيبتي على ظهري وانطلقت نحو البوابة الزجاجية للفندق، هرع البواب ليحمل أغراضي على العربة فلم يجد في يدي سوى كتاب صغير وكاميرا رقمية، فعاد بعربته التي أخذ يدفعها يائساً أمامي وأنا أتبعه لأدخل صالة الفندق. كانت الصالة فارهة، وفارغة إلا من وجوه الندل ببدلاتهم الموحدة، ووجوه الخدم المصريين المبتسمة دوماً، وموظفات الاستعلامات الرشيقات...في الليل لم يكن هناك من أحد سواي، خلت أن المؤتمر لن يعقد في وقته المحدد بسبب غياب المدعوين، صعدت إلى حجرتي ارتميت على السرير ودون أن أخلع ملابسي نمت...بين حين وآخر كانت توقظني صيحات رجال ونساء في الممر، لكنات عراقية ممزوجة بإنجليزية متقنة، أصوات العربات التي تحمل الحقائب، دورة المفاتيح في أبواب الغرف، فعرفت أن المدعوين أخذوا يتوافدون على الفندق ليلاً من كل مكان من العالم، وحين استيقظت تأكدت من ذلك. في الصباح كانت صالة المطعم الواسعة مزدحمة تماماً، دخلت، لم أجد طاولةً أو كرسياً فارغاً، فوقفت في الزاوية وأخذت أرقب المشهد: ثمة أشخاص كثيرون واقفون هناك يتحدثون مع بعضهم، أو يسلم بعضهم على بعض، ضحكات، كركرات، ابتسامات. كنت تعرفت على الوجوه من خلال الصور المنشورة لها في الصحافة والتلفزيون. نحن الجيل الأخير من المثقفين العراقيين، لم نلتق بأي من هؤلاء الذي غادروا العراق في الهجرة الأولى، بعد المجازر التي ارتكبها صدام حسين ضد الشيوعيين في العام 1979...وهم أطلقوا على أنفسهم بالجيل الستيني، وربما هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها بأشخاص، أراهم متجسدين أحياء أمامي، بعدما كنت عرفتهم منذ أكثر من عشرين عاماً حبراً على ورق. وكنت أشعر بأننا في خطين مفترقين تماما ...هم مؤمنون، أما أنا فلا. كنت أركز على فكرة التناقض التي يتسم بها الوجود، والقلق الذي ينخرني إزاء كل شيء، وكانت كراهيتي واضحة لكل نظام يقود إلى العنف وفوضى السلطة وعبادة القوة. خطأ دلالي في التسمية في المطعم وأنا أرقب بدهشة هذا المشهد الغامض إلى حد ما أمامي، وأنا أتفحص هذا المشهد المتكون من الأشكال الغريبة في الملبس واللحى وتصفيفة الشعر والعطر والأتكيت والبلاغة المبالغ بها، كنت أفكر بخطأ دلالي في التسمية، فهذه الوجوه التي بدت عليها آثار الصحة، وهذه الأجساد الرياضية تقريباً، والصحية جداً...هي أجساد المنفيين، فعرفت أن المنفى هنا يفقد معناه الدلالي ويأخذ معنى آخر...معنى الوطن وبطريقة معكوسة تقريباً...فالمنفي يعيش في بلدان المنفى بصورة رائعة على الرغم من المعنى السلبي الذي تقدمه كلمة منفى، هذا المنفى يقدم: المال، والملابس الجميلة، والسلام، والصحة الرائعة. أما الوطن فإنه لا يقدم شيئاً من هذا، لقد أدركت قوة الخطأ الدلالي، السميوطيقي بمعنى ما، والذي حتمه هذا الحلم الفنطازي الطويل، فلا يمكن تقليص واختزال المنفى في معنى واحد، مثلما لا يمكننا أن نختزل الوطن في معنى واحد، إنما كل منهما يحمل مدلولات ومعان أخرى، المنفى هنا هو وطن، والوطن هناك هو منفى. الشيوعية المتقاعدة والرأسمالية الجديدة كنت أقف في الزاوية من المطعم وأرقب الوجوه جيداً، وكنت أدرك على نحو كامل أن أكثر هؤلاء القادمين من أوربا كانوا من أنصار الشيوعية القديمة التي أطيح بها، وأكثر هؤلاء القادمين كانوا قد قاتلوا في حرب العصابات في الجبال في الشمال والأهوار في الجنوب، وهم أتباع جيفارا وهوشي منه وتروتسكي فيما مضى، وهم أتباع فوكوياما وصموئيل هنتكتون اليوم...صورة ليست مقلوبة تماماً، ولكنك أن ركزت قليلاً مثلي ستعثر على الصورة القديمة واضحة لا لبس فيها. الصورة المعبودة القديمة لجيفارا الثائر تتراءى خلف الصورة الرأسمالية الشفافة: إنها اللحية النابتة والشعر الطويل بالرغم من التجميل الموضوي الجديد، إنها الشيوعية المتقاعدة ظاهرة ومتوارية خلف ملامح الرأسمالية الجديدة. بعضهم أبقى على لحية (هوشي منه) الطائرة أبداً، اللحية القصيرة المدببة، والصلعة اللامعة وقد خفف من ثوريتها الفظة بالعطر اللاذع، والملابس الأنيقة، والأحذية الرأسمالية الغالية. تروتسكي كان موجوداً أيضا بالنظارة المستديرة، بالشعر الناعم المردود إلى وراء، بالتقطيبة المعروفة، باليدين القويتين الحادتين ولكنه اليوم تروتسكي آخر، تروتسكي يستبدل الثورة العالمية بالثورة العلمية والتجارية والصناعية، ولا يخشى الاستيراد والتصدير وصرف العملة وشرب النبيذ الفرنسي. كل شيء يلمع فيهم مثل الصحون البورسلين المغسولة بالشامبو: أحذيتهم الجلدية الغالية الثمن، بذلاتهم الراقية، عطورهم التي تختلط مع بعضها في الصباح، الساعات، الخواتم، الأربطة الحرير والقمصان المكوية، ولم ينس المناضلون القدماء أيام حرب العصابات الشيوعية واليسارية التي شنوها على النظام السابق، فقد أبقت الموضة منها الشيء الكثير: البنطلونات الكاكية ذات الجيوب الجانبية والقمصان الكاكية المكوية ذات الياقات على الأكتاف، والشعر الأشيب الذي حركه المشط ليبدو غير مصفف ولكنها أناقة متعمدة ومقصودة، واللحية الوقورة المستقرة على الوجه الذي لم ير الشمس في أوربا منذ وقت طويل، وبدلاً من الأسلحة القديمة أيام حرب الخنادق، وحرب العصابات في الجبال، أو الثورة الدائمة في أهوار الجنوب التي بشر بها (عزيز الحاج) ، أو الاختباء في السراديب والأقبية الكثيرة في بغداد، أصبح سلاحهم اليوم الكاميرات الرقمية، والكاميرات السينمائية المتطورة...وفي الممر وضعوا الحقائب الجلدية الراقية بدلاً من الأكياس المصنوعة من الخيط البني التي كانوا يحملونها أثناء حرب العصابات. نساء أيضا وجوه النساء تغيرت أيضاً...وجوه الممثلات والمذيعات والشاعرات التي كانت قبل ثلاثين عاماً تملأ الصحف أو شاشات التلفزيون موجودة هناك. أجساد نتذكرها منذ كنا صغاراً حينما كنا نرقب بوله طاغ هذه اليفاعة والشباب العارم للنساء المشهورات، كنا نرقب الأجساد المغرية والمثيرة والتي كشفت عن أذرعها وسيقانها وآباطها الحليقة النزعة التحررية التي اشتدت في السبعينيات، الوجوه الجميلة ذاتها، الشعر ربما قريب منه أو يشبهه، غير أن البشرة ترهلت وتهدلت، والصبغة أخذت أنفاس الشعر وكتمته، والأجساد التي كانت تعلن عن بلاغتها السكسية بالتكورات البضة قد ترهلت، وبشرة الوجوه قد تهدلت وتجعدت، وأولادهن وبناتهن ورائهن يملئون ساحة البهو ولا يعوضون البطلات القديمات ولا صورهن. استمرار ثقافة ومؤامرات الخروج نحو المطار...سريعاً، سريعاً من صالة الفندق إلى الباصات التي تجمعت قبالة الأوتيل...ضوضاء من كل نوع، أصوات تختلط مع بعضها، وأنا أقف أتفحص الوجوه وأتعرف عليها بصمت مذيب، كانت الجمل تأتيني متقطعة، مبتورة، منغمة بطريقة مختلفة، لكنة الأنتلجسيا الموجودة في كل مكان: من فضلك صديقي...دعني أمر...أوه أنت الذي كتب كتاباً عن الثورة وحلل فيه أفكار ماركوزة...أوه أنا أعرفك من صورتك أنت المخرج...كان فيلمك رائعاً عن بطش النظام...نعم، نعم أعرفه كنا في قتال النظام البائد معاً، أمضينا أربعة أعوام في حرب العصابات...هل تتذكر الكاتب الذي أعدمه صدام حسين وكنت كتبت عنه في روايتي الثانية... أعتقد أنهم ليسوا ماركسيين تماماً...وليس ليسوا ماركسيين أبداً... وبين ال(تماماً) و(الأبداً) كانت ساحبات البهو تدفع بالهواء والكلام وروائح الماكياج إلى الخارج بقوة...والكل يتحرك بسرعة ويندفع نحو الباصات الواقفة خارج البهو...الكل يتناقش ويتعارف ويتبادل الابتسامات... طائرات قديمة ووضع جديد الطائرة الجاثمة على أرض المطار تكمل الحلم الفنطازي الطويل. في الثمانينات كانت هي أحدث طائرة في الشرق الأوسط، حين كانت حكومة بغداد تحرص أن تكون طائراتها هي أحدث طائرات العالم وأكثرها تطورا، الدولة الاستبدادية تحرص على المشهدية الرمزية spectacle symbolic المعبرة عن قوتها وحداثتها، فتجعل من مضيفاتها أجمل المضيفات، ومن الخدمات التي تقدم على متن طائراتها هي أفضل الخدمات، غير أن الأمر قد اختلف منذ التسعينيات ذلك أن الدولة القوية والثرية تهاوت تحت ضربات جيش التحالف المدمرة، وهذه الطائرة كانت محجوزة منذ التسعينيات عبر قرار الحظر الأممي على بغداد ومنع الطيران بعد غزو الكويت، كانت جاثمة في مطار عمان، متروكة مرعى للغبار والريح والمطر، لقد أهملت أكثر من خمسة عشر عاماً على أرض المطار حتى باضت الحمامات في محركاتها وعشعشت، وبعد أن أصلحت بعد سقوط دولة بغداد الاستبدادية، واستبدلت غيارتها بجديدة، بقي هيكلها القديم، وشكلها المهدم، فبدت صورة رمزية أخرى، تعكس صورة الدولة الفقيرة المنهكة العجوز. المضيفات يكملن الصورة...المضيفات الجميلات ذوات الشعر الأسود المنسدل على الأكتاف، والأعين الذباحة ولكن قبل عشرين عاماً من الآن...إنهن ذاتهن ممثلات الجمال والفتنة والإغواء فيما مضى، غير أنهن الآن أمهات وعمات كبيرات يدفعن عربات الطعام وهن يلهثن، الوجوه المتعبة التي فشل الماكياج في إخفاء تجاعيدها، والأجساد المترهلة التي تلطلط من الملابس المحتشمة، والأيدي المرتخية بعد عشرين عاماً من الحروب والحرائق والدخان، إنهن الآن حاضرات كما كن قبل عشرين عاماً ولكنهن يكملن الصورة، صورة الخوف والرعب، حيث استبدلت الصورة المغوية بالحكمة الحزينة. الطيار هو الآخر...طيار مقاتلة فيما مضى. بطل الحروب القديمة تحول إلى طيار مدني ولكنه لم ينس مناوراته الحربية، أو لم يعتد حتى الآن على الطيران المدني الساكن والهادئ، فجرب حركة استدارة قوية ليزيد من مشهد الرعب...بدت الطائرة وكأنها هوت في الفراغ بسرعة...فارتسم الخوف على وجوه الحاضرين، وعندما استقامت الطائرة وعادت إلى مسارها تساءل أحدهم عن السبب، فضحكت المضيفة البدينة وقالت: -طيار حربي...بارع لكنه لم يعتد بعد على قيادة الطائرات المدنية. هبوط الطائرة كان أمراً مختلفاً، البراعة انبثقت بسرعة، البراعة المذهلة في ملامسة الطائرة لأرض المطار كانت بارعة. صفق الحاضرون لهبوطه الحربي على الأرض...أربيل...إنها أربيل...صاح أحد المناضلين القدماء وهو يمسح لحيته البيضاء بكفه. مكان حافل وغريب الاستقبال حافل في المطار...المنظمون يقفون لتحية القادمين، الترحيب والسعادة على أشد ما تكون، والباصات المتجمعة عند البوابة الخارجية أقلت المائتين إلى أفخم فندق في المدينة... إنه فندق الشيراتون...الفندق الوحيد في أربيل بنجومه الخمسة، فندق حديث أنشأ قبل أعوام، أي بعد أن انفصلت كردستان تماماً عن حكومة المركز بعد حرب الخليج الثانية. قطعة حديثة لا علاقة لها بالمدينة القديمة، شيء متطور وحديث مزروع وسط عالم غريب عنه، بناء أوربي وسط مدينة شرقية، المنازل الصغيرة ذات الطابق الواحد تحيط به، وهو يمتد بحدائقه الجميلة ونافوراته التي تغرد. الواجهة العالية على الطراز الأميركي مزيج من الزجاج العاكس والألمنيوم، ومن الداخل يمتد البهو إلى أربع صالات واسعة، موزعة على طابقين، وسلّم ملتوٍّ، ونافورة كبيرة في الوسط. عالم الفندق من الداخل عالم مختلف عن كل ما يحيط به. عالم الثراء الواسع والطعام الذي يقدم بلا حدود: أكلات أوربية وشعبية، مشروبات روحية تقدم في بار صغير في مقدمة البهو. عالم متقدم وسط منطقة قبائلية وعشائرية محكومة على الطريقة القروسطية. سلطة مزيج من الإرث العشائري الممتزج بما هو ديني ومقدس وعلاقات جد بدائية. حياة ساكنة مثل موسيقى القرب تعيد نفسها بصورة مريعة، ومليشيات تحولت إلى جيش نظامي وشرطة. سلام ومثقفون كردستان هي المنطقة الوحيدة التي تتمتع بالسلام في العراق، لكنه سلام يقف على برميل من البارود. الصراعات والتناقضات الداخلية كبيرة، التهديدات الخارجية جدية وحقيقية. كل شيء مزروع ومقحم بصورة غريبة: سلام وسط منطقة متفجرة، فندق عظيم وسط منطقة تقليدية ومتخلفة، موسيقى كلاسيكية وسط أميين، ملابس غربية مغرية وسط علاقات قبلية. خطأ واحد وبسيط يمكنه أن يفضح هذه الصورة الغريبة والمفتعلة... إنها ديمقراطية عظيمة دون شك، ولكنها تحمل كل مساوئ الحكومة الشرق أوسطية: طبقة سياسية وحيدة ستعيدها الانتخابات وتكررها بشكل أبدي، وقمع أخرق يرتدي سلطة القانون: (مقالة كتبها المفكر الكردي أحمد سيد قادر أدت به إلى السجن عشرين عاماً بعد محاكمة استغرقت ساعتين). التمرد هو احتجاج فعال ضد الظلم واليأس والعبث والطغيان، لكن الثوري يعيد استعمال الأدوات الفظة للطاغية، فيتحول الاحتجاج إلى ثورة تأخذ شكل العنف والحرب والدماء، قد لا يعلو التمرد على العدمية، لكن الثورة ستنتهي حتما إلى تبرير القتل، ويتحول التمرد الفعال إلى ديكتاتورية فضيعة، وتتحول مبادئ الحرية والعدالة إلى طغيان الدولة البوليسية، وسرعان ما يتحول الثوري إلى خائن. مقهى، عرب وبنات آوى وأنا أدخل مقهى المثقفين الأكراد أستعيد عنوان كافكا لأحد قصصه...عرب وبنات آوى، نعم...القومية الجامحة ما زالت تنتشر بين المثقفين الأكراد الذين قاطعوا المؤتمر احتجاجاً على عقد مؤتمر عربي وسط ثقافة كردية...المثقف الكردي يكتسحه إيمان مطلق، ليس لديه الشك الكاسح ولا القلق المدوي، وبسبب ضعف التقليد تفتقر الثقافة الكردية للصعاليك والمتمردين والمخربين الكبار، القومية الجامحة تجدها ببساطة مخلة في كل نص، البحث عن القومية العرقية بعد أن ودع العالم عصر القوميات، والبحث عن الدولة عند عصر سقوط الدول. لقد كسب الشعب أخيراً، ضحى كثيراً، قدم القتلى والشهداء وصار ضحية للعنف، وربما سيدرك فيما بعد، مثله مثل كل الشعوب المناضلة الأخرى في العالم، أن المكاسب لا تتناسب مع التضحيات أبداً، كل التضحيات الكبيرة تقدم مكاسب تافهة، لقد خرج الجميع خاسراً من لعبة القوميات الجامحة، وأمام ذكرى الذهول العميق، والغبطة الساذجة التي أعقبت الحرب، وقفنا جميعاً أمام معسكرات الإبادة بلا أبالية مقرفة، لقد وصلنا إلى ضرب من الواقعية التي لا يمكن تبريرها، أما الأفكار عن العدالة وحقوق الإنسان التي بسطت هيمنتها، لم تؤثر على المجتمع ولم تمسه إلا بتغيير طفيف. قدوم الأربعمائة كانت الصالات الجميلة، والغرف الحديثة، والأسرة الوثيرة، والمسبح، والساونا، للمثقفين القادمين من الخارج، شيراتون هو الصورة الأكثر قرباً من الحياة التي قدموا منها، والأكثر بعداً عن حياة القادمين من الداخل، كان التلفزيون ينقل أخبار الداخل: موسيقى حزينة، صوت المذيع البارد، مشهد الموت في كل مكان، أصوات خوف واضطراب كبير، صراخ نساء ورجال، أصوات تفجيرات مفزعة، حرب خنادق ساخنة، اختطاف وذبح على الطريقة القروسطية، بشر ينحرون وآخرون تتطاير أعضاؤهم وأحشاؤهم في كل مكان، وبعد مقتل عشرات الآلاف (أكثر من 170 مثقفاً وصحفياً بينهم) هنالك صمت مطبق ومريب. لا شيء سوى النظر البارد إلى مشهد العنف عبر الشاشات، النظر إلى سيارات إسعاف تنقل الجثث السابحة بالدم الرائب، ولملمة أعضاء القتلى ببطانيات وخرق وسخة وممزقة ورميها في سيارات البيكاب. حسن، الأربعمائة مثقف قادمون من هذا الجحيم...لقد تأخروا في الوصول قال أحد المنظمين، فندق شيراتون لم يتسع إلا للمثقفين القادمين من الخارج، أما القادمون من الداخل فسيتم توزيعهم على الفنادق الأخرى في أربيل. عدالة بثلاثة بنسات لا أدري لماذا كنت أردد مع نفسي قصيدة قديمة (موسيقى بثلاثة بنسات)، واستبدل كلمة (موسيقى) بكلمة (عدالة)، كلما أسمع الجملة التالية: أربيل غير مصممة لاستقبال ستمائة مثقف عراقي؟ شيراتون أربيل...الفندق العظيم بنجومه الخمسة اتسع للنظيفين والوسيمين أبطال حرب العصابات والسجناء السابقين، وكان نصيب المثقفين القادمين من الداخل، القادمين من الجحيم فنادق أربيل الأخرى، و(الأخرى) هنا تحمل دلالات كثيرة بطبيعة الأمر. إنها فنادق أربيل الطبيعية والمتوائمة مع صورة أربيل العالمثالثية والشرق أوسطية. فالدولة الشمولية في الشرق الأوسط تركز الرساميل في العاصمة، قريباً منها ومن سلطتها، وتترك الأطراف للخراب والدمار. وهكذا رحل المثقفون الناجون من الجحيم مؤقتاً إلى فنادق منتشرة في المدينة، وهي فنادق وسخة وقذرة، كانت تستقبل الجنود في سنوات الحروب القديمة، وكنت سكنتها أنا أيضا –كجندي- أواخر الثمانينات...وكنت تعرفت على رائحتها النتنة، وتعرفت على بلانكيتاتها القذرة والتي التحف بها ألف شخص قبلي. وها هم الناجون من الجحيم مؤقتاً يلتحفون ببلانكيتات الجنود الخضراء، ويعيشون كوميديا فنادق أربيل الأخرى: التواليتات الطافحة، القذارة المرئية بين شقوق البلاط المخلع، الرائحة العفنة، المعاملة السيئة، وعليهم تحمل الطقس الحار بلا ماء أحيانا، وبلا كهرباء في أحيان كثيرة...هذه هي العدالة ...بثلاثة بنسات!. تناقض صارخ ومن بين القادمين من أوربا بألوان ملابسهم الحادة والفاقعة، تميز القادمين من الداخل بألوان ملابسهم الملحية والكابية، الصورة واضحة جداً ومعبرة، الوجوه حزينة جدا، اللحى نابتة غير محلوقة، ولكن ليست على الطريقة الشيوعية المتقاعدة. الملابس مهملة، الحوارات متعجلة، المحادثات شفوية وقصيرة، كل شيء يحتم أن يدوّن، الكلام ينجز بطريقة سيئة ومختزلة، تفضي إلى تكرار جملة أفكار تغدو فقيرة وتتخذ صيغاً مبسطة: إنه هاجس شمولية المعنى وعموميته عند مثقفي الداخل، وهو هاجس الكلام الذي لا يصل إلى أي معنى عند مثقفي الخارج. محاولة حسم المواضيع والوصول إلى نتيجة كاملة عند مثقفي الداخل، لكن الكلام عند مثقفي الخارج هو فعالية تحريضية مثيرة ومنعشة في آن معا، فالأحداث عندهم قادمة من جهة نائية، لم يعش أحد منهم راهن الأحداث المريعة، وكان كلامهم برمته يتوسل هاجساً بعيداً ويصوغ أحداثاً ووقائع تاريخية بعيدة. ما يمكن اعتباره إثارة مباشرة –عند مثقفي الداخل-هو القلق على حاضر الحياة و مآله، هو الإحساس بمسؤولية نوعية لأنهم يواجهون الخطر كل يوم وكل لحظة. هل الثقافة مناوئ جيد للكوارث؟ تدبّر بطيء يخفي أسى وقلقاً واضحاً، لم تعد الثقافة هي استخدام الكلام على نحو أفضل، وتسمح بطيّ مراقي أخرى من سلّم التسامي، وتنتشل الناس من درك الكلام العادي وسفالته، ما عادت للثقافة وظيفة تخليص الناس من الغرائز المرذولة والاستيهامات. إنهم، كلهم -من الداخل والخارج- أبدو ردود فعل مرتبكة أمام القتل المجاني، وأدركوا عجز الثقافة كليا عن إنهائه. صورة المثقف في شبابه هنالك ثلاثة أشكال للمثقفين القادمين من الداخل، ثلاثة أشكال رئيسية متمايزة: أولا، صورة المثقف الإسلامي، وهو النموذج القادم من طهران بوصفها متربول الثقافة الشيعية المعاصرة، الشعر المفروق من الطرف، والخصلة التي تحد الجبين، واللحية السوداء النابتة، والنظارة بالإطار الأسود، والجاكيتة العريضة، والبنطلون المريح، والقميص دون رباط وقد زرره من الياقة، إنها الصورة البديلة لصورة المناضل الشيوعي في السبعينيات والتي اختفت تماما من الحياة الثقافية في العراق، وبدلا من صورة لينين وماركس حلت محلها صورة علي شريعتي وعبد الكريم سروش . الصورة الثانية هي صورة المثقف القومي القديم، بشواربه الكثة والممشطة على فمه حتى تخفيه، وشعره المصبوغ بالأسود والمردود إلى وراء، بخدوده السمينة ونظراته القاسية، الصورة العربية للذكورة القومية الطاغية، غير أنها اليوم صورة قديمة ومنهكة ومتعبة، لم تعد تحتفظ بالقوة القومية الجامحة كما كانت في الماضي أو بفحولتها، الصدر العريض تهدل على الكرش الناط للأمام، والشوارب الممشطة فقدت لونها، والعينان الصقريتان فقدت بريقهما وقسوتهما وأصبحتا كابيتين تماماً. الصورة الثالثة هي صورة الصعلوك الأبدي في الثقافة العراقية، صورة الكاتب الهامشي والخارجي والمقصي، صورة آرتور رامبو المنقولة إلى الثقافة العربية بقملاته الثلاث ووسخه، صورة السكير الأبدي بملابسه القذرة وأسنانه المهدمة، لكنه المعادي لكل سلطة، والخارج عن كل قانون، حتى قوانين الثقافة. بين هذه الصور المتمايزة الثلاث تنتشر مجموعة أخرى من الصور المتضادة والمتنافرة، صور المثقفين الشباب بحماستهم وتطرفهم، صور المثقفين الجدد بالبناطيل الجينز، والقمصان الضيقة، والتي شيرتات الملونة، والخائفين على شعرهم الطويل وسوالفهم الرفيعة من مقص المليشيات الدينية. أو صورة الشباب التقليدي بملابسه التي تشبه ملابس المعلمين القدماء، وتشكل تضاداً مع شباب الوجوه ويفاعتها. أما القاسم المشترك بين القادمين من الداخل فهو شيخوخة الوجوه وتهدلها، وقد رسمت الشمس الساطعة على البشرة أخاديدها. محافظون جدد و طوباويون لم تنته الحرب بعد...القتل والوحشية والدمار في تسارع كبير، ودراكولا ما زال يقطع الشوارع ويمص دماء الناس، وقد أصبحت الثقافة شكلاً من أشكال المستحيل، فالمحافظون الجدد المحليون ما زالوا على إيمانهم بالأوهام المجيدة، وهم تلامذة برنارد لويس وكنعان مكية وفؤاد عجمي ، والمتدينون الطوباويون يعدون الناس بنعمة من نعم الله القادمة، وجلادو النظام السابق هم أبطال حرب العصابات الجدد، وهم القتلة والمخربون، وهنا لا فرق بين المصائر الطاحنة واقتراحات الدين. كان الجميع يريد من العالم أن ينقذه، والكل لم يأل تمسكه بمثالية الغرب من أرازموس إلى هابرماز، لكنها غائرة، في واقع الأمر، في الخرافات. الواقع لم يكن عظيماً كما كان تروتسكي يصرخ، واللاواقع لم ينوجد بعد لنصدق خرافات الإسلاميين، وكل شيء كان يسفر عن إخفاق ذريع. لقد تخلى الجميع عن آماله، والثقافة العراقية رازحة تحت تناقضات متعذرة الحلّ، أو رازحة تحت ضربات الإيديولوجيات الأكثر وسواساً، أما المتدينون فهم وحدهم يحتكرون السلطة و يحتكرون النفوذ. خراب الحرب واضح لا لبس فيه: بغداد مدمرة، الجنوب والشمال اللذان رزحا تحت تطهير عرقي واضح يبتعدان عن المركز. القادمون مع الأمريكان يبشرون بالعولمة والرأسمالية الجامحة، الإسلاميون يبشرون بالاستبداد الخميني أو البنلادني المخيف. خراب سافر فوق رأس الجميع، وما فاقم اندهاشي هو أن الطبقة المثقفة تتقوى بالإيديولوجيا يوماً بعد يوم. مؤتمر حقوق الإنسان تنقل التلفزيونات والصحف وقائع مؤتمر المثقفين عن حقوق الإنسان: بينما يختفي مشهد العنف الدامي فجأة، ويحل محله الأمل بحياة أخرى، غير أن الصراعات والشكوك كانت مكشوفة ومفتوحة على أبوابها، من إنسان بلا حقوق في زمن الدكتاتورية إلى حقوق بلا إنسان في الزمن الحالي: كانت الأسئلة أول الأمر محايدة: كيف تعرف حقوق الإنسان، أولا من هو الإنسان. يصرخ أحدهم: أنت إنسان؟ أنت إنسان وكنت تكتب عن الدكتاتورية فيما مضى؟ أنت لا حق لك بالكلام -نحن كتبنا أدباً حقيقياً بعيداً عن التورط بأيديولوجية السلطة- قال بوجهه المتورد وشعره المرسل على كتفه- أنتم خضعتم لسلطة كانت تحجم دور الأديب والمثقف، من خلال سحبه إلى منطقتها. - نحن كتبنا بحرص ونزاهة وواجهنا السلطة بشجاعة، ثم ذكر القصص والروايات التي استطاعت أن تفلت من سلطة الرقيب وتخرج إلى الهواء. -أنتم استعلائيون استعلائيون ومتغطرسون بصورة مقززة لا يمكنكم أن تتعالوا على الأدب الذي صنعكم. نهض أحدهم وكأنه يتحدث عن ثقافة بلدين متصارعين: نطالب بعدم اجترار قضية أدب داخل أدب خارج، أن نعمل على تبادل الثقافة بين الطرفين، ونلغي الطريقة التي يهاجم فيها الأدباء بعضهم البعض الآخر كالكتابة إلى السلطة أو الكتابة في الخارج بعيداً عن الوطن. واقترح القيام بخطوات عملية وعقد ندوات مكثفة بين الاثنين. -إنكم تلغون العقل وهي وسيلة الهروب نسبة للمهزومين، الأدب الحقيقي هو أدب الداخل، أما أدباء الخارج فهم جبناء وهاربون، نحن عشنا الجحيم خلال سنوات طوال. -أنتم عشتم في ظل الدكتاتورية وقد خربت السلطة عقولكم فلا يمكنكم أن تنتجوا أدباً حقيقياً وإنسانياً...لأنه لا يمكن الانفلات من سلطة الرقيب. حلم فنطازي طويل كان الأسى طاحنا والفداحة جماعية، والبقاء على قيد الحياة هو الأكثر إلحاحاً في فوريته، وفي الوقت ذاته كان هنالك عبث مطلق، وتجريدات خانقة، وإفرازات سالبة ونتنة. كانت هنالك فوضى حقيقية وهي المرتع الخصيب للقوى المضادة، وهي مختبر لأتون الاحتراب الأهلي...الإسلاميون يريدون أن يصنعوا من الجمال عدواً للفكر. المحافظون الجدد المحليون ينتظرون من الشركات العابرة للقارات ومن العولمة المتوحشة تنظيم عالمنا وتجميل صورته المشوهة. المثقفون المستقلون ينتظرون حلول العقل الجليل الذي يحمل السعادة بلا يأس ولا دليل... أين الدليل؟ قلت في نفسي...نزر يسير من إيحاءات امتلاء حقيقي كنا نلتقطه بين حين وحين، أما الثقافة فلم تعد خصماً لأحلام اليقظة الأكثر طوباوية أبداً، وربما هنا يكمن الخطر، ذلك لأن النقد لا وجود له بالمرة، بل هو غير مقبول مطلقاً، الثورية كانت تعمد إلى طمس العقل وتحريف طبيعته، والإسلاميون لا يمتلكون سعة نظر تسعفهم على وضع الفكر موضع نقد جذري، وهكذا ستنتهي الثقافة من تسفيه العقلية السياسية وفضحها إلى مشاركة في صنعها وتبريرها...إنه واقع ما بعد الحرب، واقع اليأس الذي يجعل الكثيرين وحتى العامة منهم لا يدركون أن للإنسان حقوق طالما هو في الشرق الأوسط إنسان بلا معنى، إنه منذور إلى نهائيته، إنه بلا دولة، ولا قانون، ولا حقوق، ولا معنى، إنه خاضع لإكراه الصدفة والزمن، إنه نتاج مرارة تناقضات أليمة، والمثقفون هناك لا يتورعون، ضمن إنشاء ثقافي فاحش، عن تبرير أخطاء السلطة القديمة ووحشيتها، أو تبرير أخطاء الاحتلال وخبثه... هكذا انتهى كل شيء سريعاً وحاداً ومتناقضاً ومتصارعاً، إنه العراق...هذا الحلم الفنطازي الطويل، الذي استيقظ مثقفوه في اليوم العاشر من رحلتهم، حيث يعود قسم منهم إلى الوطن وكأنه منفى، والآخر يذهب للمنفى وهو وطن بالتأكيد.
--------------------------------------------------- 1 - ثوري منشق، قاد حرب العصابات في الأهوار جنوب العراق ضد الحكومة المركزية في الستينيات، يعيش اليوم في باريس. 2 - مثقفان شيعيان من إيران، أرادا موائمة الحداثة مع متطلبات الشريعة، الأول أراد عقلنة الفكر الشيعي بإخضاع الطقوس إلى النظر العقلي، والآخر أراد تطوير منهج قراءة الأصول بطريقة علمية، وهما كاتبان مرفوضان من قبل السلطة الرسمية في إيران. 3 - كاتب عراقي معروف، كتب كتابه الشهير "جمهورية الخوف" بالإنكليزية وأصبح من أفضل الكتب مبيعا بعد غزو صدام حسين للكويت. ثم كتابه الشهير القسوة والصمت الذي حاز على جائزة لايونيل جلبرت لاحسن كتاب، يكتب مكية في الحياة، والنيويورك تايمز والنيويوركر، بدأ حياته ماركسيا ثم تحول إلى الليبرالية وهو أول من طالب بتغيير النظام السياسي العراقي بالقوة وأكثر المدافعين عن سياسة المحافظين الجدد. 4 - كاتب لبناني درس في جامعة هوبكنز، له كتاب قصر أوهام العرب، واختفاء موسى الصدر، يعد واحدا من أهم المنظرين السياسيين في أميركا حول تغيير الأنظمة العربية إلى الديمقراطية بالقوة العسكرية.
|