كانت باريس الثلاثينيات نقطة جذب لمبدعي العالم من فنانين وأدباء، ومن يقرأ سيرة حياة أدباء وفنانين من أمثال أرنست همنغواي وبيكاسو وأناييس وهنري ميللر وجيمس جويس وعشرات غيرهم يدرك كيف أن تلك المدينة الصاخبة والضاجة بالحياة، الثرية والفقيرة في آن واحد، والمنطوية على آلاف التناقضات، كانت مصدر إلهام لشعراء وروائيين ونقاد ورسامين ونحاتين وموسيقيين قدموا من كل مكان وقد أغرتهم باريس بمقاهيها وشوارعها ومنتدياتها وعلبها الليلية ومتاحفها ومحترفاتها وصالوناتها الثقافية، وبمغرياتها وانفتاحها وتسامحها ولا أباليتها. وفي كتابه (متشرداً بين باريس ولندن) يصوّر لنا جورج أورويل باريس ولندن الثلاثينيات من القرن الماضي، ذلك العقد الفريد من تاريخ أوروبا حيث الكساد يشل اقتصاديات البلدان الرأسمالية ويعم الفقر والبطالة،
وحيث تنتعش الإيديولوجيات الفاشية جنباً إلى جنب مع الماركسية وبالضد منها. وحيث تلوح في الأفق نذر كارثة جديدة. يعرِّفنا جورج أورويل في متن كتابه ذاك، بدءاً على باريس القاع، ما وراء الواجهة البراقة.. باريس الشوارع الخلفية، القذرة، المقرفة، المهملة، التي يسكنها رجال ونساء يعيشون في درجة حرجة من الانحطاط والدونية واللامعقول.. يقول: «إن أحياء باريس الفقيرة مجمع للناس غريبي الأطوار ـ إنهم قوم سقطوا في مهاوٍ للحياة، منعزلة، شبه مجنونة، وتخلوا عن محاولة أن يكونوا عاديين أو معقولين»، وهؤلاء الذين عاش معهم أورويل فاصلة من الزمن قد غدوا جزءاً من قصته. وقد رغب أن يعطي فكرة عن البؤس الذي يعانونه؛ «البؤس هو ما أشرع أكتب عنه، البؤس الذي اتصلت به، للمرة الأولى في حياتي، في هذا الحي الفقير» واسمه (حي الديك الذهبي) هناك حيث يخسر الإنسان إنسانيته، وكرامته تحت طائلة الجوع والفاقة والمرض، ليغدو، على حد تعبير أورويل نفسه «معدة فقط مع بضعة أعضاء ملحقة» لينغمسوا في العطالة والضجر والسكر بمعاقرة الخمر الرديء والسباب والعراك بالأيدي، والموت من غير أسف: «هي الحياة بستة فرنكات يومياً آلاف الناس في باريس يحيونها، فنانون وطلبة يصارعون العيش، عاهرات عاثرات الحظ، عاطلون من كل صنف.. إنها ضواحي باريس»، وتعجب أن يكون هذا القدر المؤذي اللإنساني من البؤس، في مدينة متروبولية مثل باريس، خرجت من الحرب العالمية الأولى منتصرة، وما زالت تحلب مستعمراتها، وفي الحال تفكر بالرأسمالية والاستعمار والصراع الطبقي وماركس والاشتراكية، وأشياء كثيرة أخرى. والشخصيات الغريبة، الممسوخة والمستلبة التي يعرضها علينا الكتاب ترمم وتكمل المشهد العام للمكان والزمان والظرف، إذ عاش المؤلف في القلب منه، فها هو شارلي، الذي يتحدث طوال الوقت عن نفسه «أيتها السيدات والسادة، النساء كن خرابي، خرابي بلا أمل». ومادلون التي تقول «كيف أتزوج جندياً واحداً، أنا التي تحب الكتيبة كلها». وجول العامل في مطعم يخبر المؤلف متباهياً كيف أنه «عصر في أحد الأيام خرقة غسيل قذرة في صحن حساء زبون، قبل أن يقدّم الصحن، لسبب واحد فقط، هو الانتقام من أحد أبناء البورجوازية». وفي أوضاع كتلك ـ وهي أوضاع ما تزال نسبة عالية من سكان قارات الأرض تحياها، وأسوأ منها حتى اليوم ـ يُمسخ الكائن البشري في أعماق روحه ويُصيبه الصدع في الداخل. «لويس الضخم، الحجّار، كان سكرانا، يزحف على الأرض، نابحاً، متظاهراً بأنه كلب سئمه الآخرون، وأخذوا يركلونه وهو يمر بهم»، أما فوركس الشيوعي في أثناء صحوه، والشوفيني حين يسكر فإنه كان «يفتتح أمسيته بمبادئ شيوعية جيدة، لكنه بعد أربعة ليترات أو خمسة يكون شوفينياً قحاً، يسب الجواسيس، ويتحدى كل الأجانب للقتال، وإن لم يمنعه أحد يقذف الناس بالقناني». إن حياة في هذا المستوى من السوء والانحطاط لاشك ستخرّب ليس نفوس البشر وحسب وإنما منظومة القيم، أيضاً، التي تسيّرهم في الحالات الطبيعية، والمؤلف يفضح لنا هذا كله بمزيج من السخرية والغضب والإحساس بالواجب في أن يُظهر للعالم ما يجري في مدن كبيرة كباريس ولندن. أن تكون متشرداً في مدينة كبيرة مثل باريس ولندن فهذا يعني أنك لا تنتمي إلى مكان بعينه، إنك مقتلع وتفتقد إلى الرسوخ والتجذر، فتظل هارباً من أي مكان تطأه أو أنك تُقصى وتبعد عنه بعدِّك منبوذاً وغير مرغوب فيه.. المتشرد هو من لا يستطيع التكيف مع بيئة بعينها، فهو اللامنتمي بامتياز، وأكثر الكلمات التي تشغل باله هي الإفلاس والنقود.. الجوع والطعام.. العراء والمأوى. وقد يفتقد إلى الهوية كذلك.. إن وضعه متشرداً لايتيح له إمكانية السؤال عن ماهية ذاته، فمثل هذا الأمر بحاجة إلى شيء من الوضوح والثبات والتحرر من ضغط الحاجات الدنيا والذي لا يحظى به المتشرد، والكتاب يبدو في فصول كثيرة منه أشبه بريبورتاجات صحافية عن حياة المهاجرين والمتشردين والمتسولين وغاسلي الصحون والعاطلين في تلكما المدينتين. وكل أولئك التعساء الموجودين هناك لن تفكر فيهم كأناس أسوياء مهذبين طالما أنهم خسروا شروط إنسانيتهم وكرامتهم، ومن ثم احترامهم للذات. إن معدة خاوية متطلبة تصرخ أبداً، وروح ممزقة ومقهورة وذليلة، لابد أن تسلب العقل منطقه واتزانه وتنحدر به إلى سفالة حيوانية، إذ يُنتزع من الإنسان إنسانيته وكرامته وتأسره وتكبله قيود الحاجات البيولوجية غير المشبعة والتي تجعل منه عبداً لها.. إنها الحياة في الهامش بلا مذاق أو معنى. إنها حياة ينخرها الضجر والعبث والبذاءة واللايقين. تذكِّرني أجواء كتاب أورويل هذا بالأجواء التي صوّرها وخلقها هنري ميللر في روايته ذائعة الصيت (مدار السرطان) والتي هي الأخرى تتحدث عن باريس ما بين الحربين، باريس المتشردين والعاطلين والهائمين على وجوههم. ما كتبه هنري ميللر في (مدار السرطان) يُصنّف من ضمن جنس الرواية، أي أن الكتاب بمجمله (عمل تخييل)، ويؤكد نورمان ميللر في مقدمة الكتاب أن هنري لم يكتب سيرته الذاتية هنا، غير أن الكتاب بمجمله يلقي ضوءاً باهراً على تجربة هنري ميللر في باريس الثلاثينيات حيث كان يعيش في منفاه الاختياري أيام كان شاباً متبطلاً مفلساً، ولم يكن قد كتب بعد تلك المؤلفات كلها التي جلبت له الشهرة والمجد في ما بعد ذلك، وسيقول أورويل نفسه عن مؤلف (مدار السرطان): «إنه كاتب النثر البارع في تصويره الوحيد ذو القيمة بين الأمم المتكلمة باللغة الإنكليزية منذ سنين عديدة». باريس الثلاثينيات في (مدار السرطان) لا تختلف عنها في (متشرداً بين باريس ولندن) ومن يقرأ الكتابين في الوقت نفسه أو في وقت متقارب «كما فعلت أنا» فمن المحتمل أن تختلط عليه مسارات الأحداث والشخصيات، على الرغم من اختلاف أسلوبي الكاتبين ورؤيتيهما. فالمغزى الذي ينشده هنري ميللر، في نهاية المطاف، له بعد وجودي، لذا فإن ظلالاً من الغموض تكتنف فقرات مطولة من الرواية وتسبغ عليها رؤية فلسفية، فيما تبقى إطلالة أورويل على عالمه ذات طابع اجتماعي ـ سياسي كما هو شأنه في بقية أعماله الأدبية. إن الكتابة عن حياة متعثرة، كتلك التي يحياها بطل (مدار السرطان) ستنعكس على شكل سرد متعثر ومتوتر، ومن غير أن يفقد العمل تناغمه ووحدته الداخلية، والأمر ينطبق، من هذه الناحية، بدرجة أقل، على عمل أورويل الذي نحن بصدده. يقدّم أورويل ما يشبه المانفيستو وهو يستعرض تفاصيل حياة غاسلي الصحون والمتشردين في باريس ولندن، وكان هو قد عمل في وظيفة غاسل صحون في فندق باريسي راقٍ، ولكن في مكان منه تحت الأرض، وضيع وخانق إنه يستغرب من «أن آلاف الناس في مدينة حديثة عظيمة، عليهم أن يمضوا ساعات يقظتهم في غسل الصحون داخل جحور ساخنة». ثم يصف بعبارات عارية صادمة عمل وحياة هذه الفئة البائسة، صارخاً باحتجاج بوجه النظام السياسي والاجتماعي الذي يتيح لمثل هذا الوضع المزري لشريحة من البشر أن يستمر عمله ذليل وبلا فن، والأجور التي يتقاضاها لا تتيح له أكثر من البقاء حياً عطلته الوحيدة هي الطرد.. وباستثناء ضربة حظ سعيدة، لا منجاة له من هذه الحياة، إلاّ في السجن. واستغرابه يمتد حين يشرع بالحديث عن حياة المتشردين اليومية في مدينة متروبولية كبيرة أخرى هي لندن. غريب أن قبيلة رجال يعدّون بعشرات الآلاف يطوفون في أرجاء إنكلترا، من أقصاها إلى أقصاها، مثل يهود تائهين. ويسخر من الأفكار السائدة عند الناس (البرجوازيون) عن المتشرد الذي يظنونه مخلوقاً كريهاً وخطراً ووحشاً ولصاً، ولأنه (أورويل) قد خالط المتشردين اضطراراً، وعن قرب، وخبر معادنهم بعد أن صار واحداً منهم، فإن له رأياً مختلفاً.. يقول: أنا لا أقول أن المتشردين هم شخصيات مثالية، بل أقول فقط إنهم بشر عاديون. وإن كانوا أسوأ من الآخرين فإن هذا نتيجة لا سبب لطريقتهم في الحياة. وبعد أن يتطرق إلى الشرور الثلاثة التي تصاحب حياة المتشردين وتسمها بسماتها وتسممها، والمتمثلة بالجوع والانقطاع عن العلاقة بالنساء، والبطالة الإجبارية، فإنه يقترح إخراج المتشرد «من العيش على نفقة الآخرين بإيجاد عمل له. عمل ليس لغرض العمل، بل عمل يستمتع به، وينتفع منه». أي عمل يعيد له كرامته واحترامه لذاته. وتظهر الأجزاء التي كتبها أورويل في فضح ما يتعلق بأوضاع غاسلي الصحون والمتشردين الذين هم بروليتاريا رثة في ظل نظام رأسمالي استغلالي كما لو أنها (تلك الأجزاء) تعقيب على، أو هامش متأخر للبيان الشيوعي الذي كتبه قبل ذلك بـأكثر من ثمانين سنة كل من كارل ماركس وفردريك أنجلس. |