ـ ماذا في حقيبتك المهترئة كجِلدك أيها العراقي؟
أوراق وأحزان..
أثبِت أنك موجود وحيّ وبريء ومسالم لا تقلق الآخر.
مولود في الوحشة وسواد الرايات في أرض السواد، وبكاء أمهات يهززن المهود الخشبية على إيقاع الوجع والشكوى من زمن يحفر بقسوة آثاره على وجوه أتعبها الفقر والعسف والخواء.
تاريخ طويل من الموت المقسَّط في هيئات مختلفة...
أوراق تمتلئ بها حياتك وتمتد الأيدي تطالبك بها... فأنت متهم حتى تثبت إدانتك.
هويتك داخل جحيمك مظنة موت محتمل..عند حاجز تمتد يدك إلى جيبك اليسار لترضي ملثّماً يتفحصك ويتشمم رائحة حليبك الذي رضعته..
وإذا أخطأت فأبرزت هويتك عن يمين فستختفي مكسواً بمراثي الأمهات: الجاهزات دوما للمندبة والعويل والمختزنات ألم البشرية الناكصة إلى غابات غادرتها بأقدامها يوما وحملتها معها، تحيي طقوس أكل لحوم الإخوة أحياءً..
ماذا في صدرك أيها العراقي؟
ـ غصة تمتد من طين بين نهرين وطمي رافدين شحّ ماؤهما وامتلأ مجراهما دماً متعدد الألوان فامتزج بدموع المغدورين الطافية أجسادهم في الظلمة ..
جريح وجارح وطنك... مشتهى ومنتبذ... مطلوب ومهجور.. تقف الصفوف البشرية الطويلة كخطوط نمل في أبواب المفوضيات والسفارات الموصدة هربا من موت ممكن ومجاني يهديه لهم بلا مناسبة.. ولتجار مآسيك القتلة.
هنا أيضا عليك أن تحضر أوراقك. أوراق أحزانك حتى لو اختلقت قصة محتملة. فالفرح ممنوع وقد يلقي بك في عراء الرفض والإقامة بلا إقامة، المساحات تضيق حتى يصبح الحلم نفسه عصياً على استيعاب جسدك. وتذكّر أنك حتى في الحلم لا بدّ أن تهيئ أوراقك كي لا تختلط الأحلام وتنالك عقوبة حلم جارك. ولا تقصص رؤياك حتى لإخوتك فسوف يضعون اسمك ممنوعا في مخافر الحدود المقفرة.. ويمهرون صورتك بعلامات التحذير..
صورتك؟ جهّز عشرات الصور لجرحك، ولذويك الموزعين في زوايا الأرض، وموتاك الذين بلا قبور، وأطفالك الذين لم يولدوا بعد.. صورتك نطفة ومضغة وطفلا وصبيا وهرِما، وإذا سئِلت عن صورة شبابك قلْ إنها احترقت في واحدة من حروبك الكثيرة الواسعة: بسوس من الجنون والرماد والخُطب والمقابر التي تحتوي الأجساد كما ولدت بلا أسماء؟
سقوف بيوتك تتطاير، وأسماك أنهارك تموت مفتوحة الأعين، ونساء وطنك بلا زينة سوى حنّاء تراب ينثرنه حزنا دائماً فوق الرؤوس التي شابت في القماط.
صفحات كتبك سوداء بلا كلمات فقد محتها رياح أثارتها طائرات الأباتشي المحوّمة في فضائك.. تراقب طلوع قمر الشجن فوق ذؤابات نخيل أجرد بلا سعف فقد قصفت رأسه كله القنابل..
ورق ملفوف بالأحزان، أتخم به حقيبتك أيها الكائن الورقي الحي بلا ذاكرة والميت بلا وصية.
في الموت وحده مسموح لك ألا تبرز أوراقك.. دمك الهوية. |