"صورة يوسف" أو "حكايات حانة المدينة"، الصادرة في طبعتها الأولى عن المركز الثقافي العربي صدرت أخيرا بالألمانية، عن دار "هانزر فيرلاغ". وقد ترجمتها المستعربة إيمكه آلف فين، وهي الكتاب الرابع بالألمانية للروائي العراقي نجم والي. ومن المعروف عن دار "هانزر فيرلاغ" الألمانية أنها إحدى أشهر دور النشر العالمية، وسبق أن ترجمت لوالي أيضا رواية "تل اللحم". هذه الرواية التي لا تنتهي، ولا تبدأ، محشوة بالغرابة والألم واللامعنى، فكل شيء هنا ممكن، وكل شيء قد يكون مجرد حلم أو كابوس ثقيل. الحقيقة الوحيدة الموجودة هي الكتاب، كحالة مادية، أما ما في داخله من شخصيات وحوادث وتواريخ وأمكنة فهو هيستيريا: هيستيريا بلد، هيستيريا وطن، وهيستيريا مواطن فقد كل شيء، حتى عقله. تزوير وكذب وخيانة، قتل واغتصاب ودم. لا يبتعد المشهد عما نشاهده في برامج التلفزيون من جرائم حقيقية، ومن مذابح تعجز السينما عن خلقها. تحضرني هنا جملة للمخرج مايكل مور الذي قال عن حوادث العراق، إن مشاهد الرعب والخوف والقتل والذبح، التي عاينها على الشاشة، تتجاوز الإمكانات السينمائية الأميركية. ما حصل في العراق، كان ولا يزال، فوق المخيلة. تجربة سجن أبو غريب مثلا، في رأيي، لم تكن لتخطر في بال السينما الأميركية، مهما علت قدراتها الفانتازية، لكن مشهد الرجال العراة الذي صدمنا، ولا يزال، يبشر بطاقات محبوسة في المشهد التخييلي الحقيقي لما أنتجه زمن الديكتاتوريات المطلقة. وما خفي أعظم. من ناحيتي، لا أنصح القارئ الرقيق بقراءة "صورة يوسف". ولا أعرف كيف حافظ نجم والي على تماسكه العقلي، وهو يكتب هذه الرواية "المستحيلة". هي رواية مستحيلة الحدوث، مستحيلة الكتابة، وصعبة القراءة. رواية لا تشدّك ولا تمتعك، ولكنها تستفز مازوشيتك في متابعة الألم. أظنها أول نص عربي كُتب بهذه السادية، التي يمارسها الروائي على شخصياته، فيذبحها بالألم والخراب والذكريات، وتلك التي يمارسها البطل أو شخوص الرواية، على الروائي نفسه. "صورة يوسف" نص مليء بالألم، يمتلك صاحبه أدوات الجلاد، ليجلد ذاته، ويتحمل ثقل الكلمات، وبطء الحوادث، واجترار الكلمات والحالات، وهذيانات البطل، وثرثرته وتكراره لجمل سبق له أن كررها على مسامعنا. طويلٌ هو الزمن الذي علينا أن نقطعه بصمت، منتظرين البطل لينتهي من استذكار حادثة ما، وهو بالكاد يضع قدمه في أول السلّم، أو يدخل غرفة السطح، قبل حتى، أن يضع الحقيبة التي لا تفارقه، حيث حشا فيها ذاكرته وعالمه. علينا أن نتحمل مرارة ذلك الوقت، من دون أن نتأفف أو نقفز فوق الكلمات والسطور، وإلا، فاتنا العذاب. وهي رواية عذاب، أو تعذيب. اتفاق خفي، بين روائي حاذق ماكر، وقارئ بمستوى المهارة ذاتها. عقدٌ على قبول العذاب، لينتهي سرد الألم. رواية مملوءة بالدم، بصيحات الاستغاثة، برجال المخابرات، بالظلم، بالقسوة، بالفشل، بالعذاب، بالخوف، بالموت، وبالتهديد. رواية ليس فيها أي بهجة، سوى بهجة أن كل هذا في النهاية، لم يكن سوى رواية. إلا أن الحقيقة ليست هكذا، فلا يزال العالم مخيفا، ولا تزال الرواية مستمرة خارج الرواية وما من ضمان في أي شيء. كل شيء يموت وينفجر ويتبعثر. لا ضمان في هذا الوجود الذي يحركه إله مدمر أو حاكم أخرق أو روائي ملعون.
يبرع نجم والي في نقل الخوف، حتى يخيل الى القارئ أن رجال المخابرات يقبعون قريبا منا، ويتنفسون غب جوارنا. ربما هنا تمكن أهمية هذه الرواية، حيث تتضافر التقنية، واللغة، وبراعة التصوير، مع جنون المخيلة، لتضعنا أمام شريط سينمائي، لمشاهد ألم متواصلة، لا يمكن تجاهلها ما دام المشهد العربي محتفظا بالكثير منها، وما دام ثمة سجون عربية، وأحكام جائرة. وإذا كان انتاب أحدنا هاجس، أثناء قراءة "محاكمة" كافكا، بأنه قد يغادر بيته في أي لحظة، ليُلقى القبض عليه، ويحاكَم عما لم يفعل، فإن نجم والي استطاع أن يشككنا، لا في الأمان الذي نتصوره فقط، بل وفي يقينية أن كلاًّ منا هو ذاته، وأنه يحمل اسمه، وأن أحدا ما، لم يسرق اسمه، ولم يرتكب الجرائم تحت اسمه، ليلصق به تهما، في عالم من اللاعدالة والرعب، لا ينتهي.
|