جغرافيا توراتية
غادرت سجن سميرة لاحقا، يدفعني فضول عارم للاكتشاف ووخز لا يطاق من الأسئلة حول كل شيء. أبي الخائف من ظله في عهد الدكتاتورية السابقة، كان يأتي إلى المنزل 7 أيام كل 40 يوما يمضيها مع كتيبة الدبابات في الفيلق الرابع، وباعتباره معلما (مثل أمي) وخطاطا جيدا كان يدير ''قلم'' الكتيبة أو مكتب الآمرية. حين سرّح من الجيش انتهت الأيام السبعة المعتادة لكنه لم يغادر المنزل، سألته باستغراب: لماذا لم تغادرنا هذه المرة؟
يحتفظ أبي عبد الستار، بكمية من الكتب في أكياس داخل ''البيتونة'' وهي نهاية السلم في الطابق العلوي. أتسلل إليها (في الظهيرة كذلك) بحثا عن إجابات لركام التساؤل الذي يؤرق من يتعلمون القراءة سريعا مثلي. ومع تصبب العرق وقلة الأوكسجين في المعزل الفوقاني، أستخرج أدبيات شيوعية قديمة لا أفهمها، روايات بطبعات شعبية، والأهم من ذلك، مجلات الصحة الجنسية التي تعالج أسئلة يتهرب منها الوالدان في العادة.
اهتديت بعد ذلك إلى ''مكتبة الجميع''، و''قرطاسية ماجد'' وسواهما، أخرج من ''التنومة'' وأركب عبّارة تخترق شط العرب، ثم أترجل بمحاذاة ''نهر العشّار'' قاصدا حوانيت الكتب. عرفت بعد ذلك أن هذا النهر كان طيلة قرون، بوابة الاستشراق الأوروبي نحو ما بين النهرين، كان كاسبارو بالبي وبييترو ديلافياليه وحتى الليدي ديلافوا، يجيئون من مضيق هرمز بحثا عن جغرافيا العهد القديم، يدخلون فوهة شط العرب ببارجة برتغالية وبريطانية لاحقا، ثم يستقلون ''البلم العشاري'' للتجوال في أزقة البصرة القديمة المرسومة بين انشعابات الجداول المائية... أحبوا شناشيلها، واتجهوا نحو الشمال بحثا عن ''بابل'' التي لم يكتشفوها حينذاك.
وعلى خطى جغرافيا توراتي أنا ابتدأت رحلة بحث أخرى، التوغل بين رفوف الكتب المعروضة، ليقول لي البائع المهذب: الصبيان يقرؤون ''قصص القادسية لليافعين'' أو أعمال أغاثا كريستي، لكنني أطلب منه كتابا حول ابن خلدون أو كريستوفر كولومبس... أليس لديك كاتب يتحدث عن ''الله''؟ يحار جوابا ثم يغضب حين يراني أنكب على مجلات وكتب مثل تلك التي يترجمها صبري قباني حسبما أتذكر. ماذا يصنع ابن 12 عاما بكل تلك الاستفهامات العاجلة والألغاز الإيروتيكية.
الحكاية لم تبدأ بعد، فقرب الحانوت الدافئ رأيت بابا متأنقة تحيطها نوافذ مظللة ولافتة مكتوبة بالنيون الأحمر ''حانة وملهى الفرات'' ورحت أخمّن طبيعة المكان بخبث، لكنني شعرت بالخيبة حين قرأت العبارة التقليدية ''يمنع دخول من هو دون الـ.''18 ياه... هل يتطلب الاكتشاف ستة أعوام أخرى من العمر؟
صرت أحسب الأيام لأقيس المسافة المتبقية (بيني وبين الحقيقة)، غواية الطريق البعيد نحو أحاجي المراهقة بدأت تقدم للصبي مشهدا مكثفا للتابو. والأرقام المدونة بخط واضح على مدخل الحانة، جعلت الحقيقة بالنسبة إلي مجرد حسابات وتواريخ أو مساحة على خط الزمن يمكن التعامل معها بمرور الوقت... فبقيت أحسب وأعد دونما كلل.
حرية ساحة التحرير
يا لفرحتي حين كفرت بمداخل الحانات القديمة ولوائح المنع، شعرت بدفقة جديدة من الانعتاق، لأجد نفسي في مفاجأة أخرى عند جدارية فائق حسن التي يحبها سعدي يوسف. المكان: حديقة الأمة خلف نصب الحرية لجواد سليم، وسط بغداد. الزمان آب/ أغسطس، .2003 السوق هناك تبيع كل شيء، الحرية تمشي إلى جانبي ولا وجود لكلمة منع، الدروع الأميركية تسحق كل مؤسسات التحريم البعثي وغير البعثي. هل أدخل حانتي اليوم... هل بلغت الثامنة عشرة في السادسة والعشرين؟
لم تمر أسابيع كثيرة حتى أدركنا إنها حرية ''ساحة التحرير'' في بغداد لا حرية جون لوك. الحرية يوتوبيا في بلد من طراز العراق، واليوتوبيا تعني لدى الإغريق ''اللا مكان''. أشياء يصعب أن تجد لها مكانا كي تتحقق، فوضى تترك هامش الحركة واسعا، ثم سرعان ما تضيقه. لم آبه للمنع الذي حاصر بغداد العام ,2005 حظر للتجوال، وحظر للحياة، وحظر للسنة، وآخر للشيعة، حظر خطير على الصحافيين وكنت منهم. رحلة البحث لم تتوقف.
«حانات» فارسية
لم أكن حينها أتصور أن الإمساك بالمعنى على هذه الدرجة من التعقيد، ولم أتصور أبدا أن أكون في بلد مثل إيران حين أبلغ الثامنة عشرة من العمر، لحظة أحلامي الحافية، حيث لا حانات فارسية ولا مسرات في ظل نظام ثيوقراطي صارم يسمع عنه الجميع. ظل المراد بعيد المنال رغم تراكم آلاف الأسابيع تحت قدمي، وظلت الحقيقة تخادع وتخاتل، تؤرخ لي مواعيد متباينة، أمر يذكر بمحاولة نيتشه التأريخ لأشكال المعرفة منذ سقراط في ''أفول الأصنام''. يستعرض المراحل بشذراته حتى يقول ''...بات المثال مؤنثا، أصبح مسيحيا، شماليا كينغسبيرغيا (مسقط رأس كانط في ألمانيا)...''. كم شكلا ينبغي للحقائق أن ترتدي وكم لونا على الفتى المسكين أن يلاحق؟
الظروف العصيبة التي مرت العام 1991 أدخلتنا في متاهة التمرد العام في الجنوب والشمال، وجدت نفسي مع العائلة في جنوب إيران نازحا أو لاجئا. صادف دخولنا في شهر رمضان وكنت بدأت التدخين لتوي واعتدت أن أتلقى التقريع من الكبار حين يشاهدون مراهقا يلتهم الدخان بشراهة. صاح بي شرطي وأنا أدخن في ''المحمرة'' رافعا صوته بالفارسية التي لم أكن أفهمها بعد، فشعرت بخجل يداهمني كل مرة أمام الكبار... وحاولت أن أفهمه بإنجليزية متواضعة أنني أحب التبغ... هكذا وبسهولة. ولحسن الحظ فإن عربيا من أهل إيران اكتشف الأمر وراح يشرح لي المفارقة: التدخين ممنوع لأنك في نهار شهر رمضان يا عزيزي! أمر لم يكن مفهوما حقا بالنسبة لفتى قادم من العراق بجرعة العلمانية المتوافرة فيه. كم ضحكت في تلك الظهيرة، وكم لونا من أنحاء المنع والتحريم اكتشفت وعانيت بعد تلك الحادثة.
الظروف الغرائبية في إيران أتاحت لي الإفلات من سجن أمي، خرجت تدريجيا من العائلة قبل أن أبلغ الخامسة عشرة من العمر، غسلت محركات الديزل وفككت براغيها في الليالي الباردة، جنيت محصول الطماطم، وأطعمت خيول السباق... وحين دفنت سميرة عند أطراف هضبة ''زاغروس'' بألم الجفاء المبكر جدا، لم أحفل بتطليق أسرتي نهائيا ورحت أستمتع بالنوم تحت الجسور أو في الحدائق (أو أقبية عطنة أحيانا)، رغم أن النوم في العراء لا يبدد النعاس، كما طعام مسروق لا يشبع البطن. كان الأمر ينطوي على اكتشاف لنواة ''حرية'' وخوض مغامرات كالتي حلمت بها عند نافذة بيتنا القديم، حتى أنني مشيت حافيا (أو بخفّ مفتوح ومهلهل) على ثلوج بلاد فارس وشعرت بزهو المنتصر يوم خيرت بين شراء كتاب أو حذاء مرة، فاخترت الأول. لم أكن أخشى الحرية بعد.
سيان يونغ الموسوي
قادتني المفاجآت التي لم تنته في رحلة الفضول العارم، نحو مدينة ''قم'' ومعاهدها الدينية المليئة بالتناقضات.
تعرفت يومها على أمثال ''سيان (أو شوان) يونغ الموسوي'' وهو شاب جاء من الصين ويعتقد إنه ينحدر من سلالة أهل البيت وارتدى العمامة السوداء، دعاني يونغ وآخرون إلى الانخراط في ''الحوزة العلمية''.
كان مظهري غريبا للغاية، الفتى المراهق يقرأ شروح ألفية ابن مالك ومنطق ابن سينا وفقه العلامة الحلي، ويهوى متابعة ابن تيمية، مع زملاء بعمر أبيه وأساتذة بعمر جده.
ينتهي قبلهم من تدوين الإجابات في الامتحان، ويسلبهم العلامات المتفوقة، ثم يحولهم إلى تلاميذ فرحين لبراعته في فك الأحاجي التي تمتلئ بها كتب التراث، كما لعبة الكوتشينة أو الكلمات المتقاطعة في عطلة صيف.
وسط كل ذلك ظلت الحقيقة بعيدة المنال، كبرت الممنوعات مع احتراف الكتابة ومواصلة النشر، أسئلة الميتافيزيقا ظلت بلا إجابة، كانت الإجابة الوحيدة هي اقتفاء آثار نيتشه حين تحدث عن ''طاعن في السن ضجر كثير الشفقة''.
لابد من الإفلات مرة أخرى من السجن الإيراني، لأن نيتشه صفعني ثانية حين أخذ يردد بقسوة ''الحقائق أوهام نسي الناس أنها كذلك، مجازات تآكلت بعد طول استعمال''.
خوف باريس
ماذا عن بلاد التنوير وما تتيحه من الحرية؟ حين زرت باريس في كريسماس 2006 بفضل تذكرة من اليونسكو جاءت عبر الصديق جمال العميدي، أذهلتني التماثيل التي تصر على عدم ارتداء الملابس. شعرت أن أعمال آلاف الفنانين تنطوي على مضمون تبشيري: لا تخش جسدك. أنبياء التعري يحبون الحقيقة مجردة عن قضبان نافذتي العازلة.
أصرت جدتي التي تقيم في السويد على أن أستقل قطارا من باريس كي ألتحق بها في ''مالمو'' طالبا اللجوء كملايين العراقيين، ولدي ألف سبب يجعل من الأمر سهلا، يكفي أنني أظهر على شاشة التلفزيون عدة مرات في الأسبوع وأحكي في السياسة ثم أعود إلى المنزل عبر شوارع لا تتجول فيها سوى سيارات الموت ذات المقود الأيمن.
حين وقفت على نهر السين لم يتداع إلى ذهني سوى أغنية فيروز ''ردني إلى بلادي...''. يبدو أنني بين ملايين اعتادوا العيش مع ''لافتة الحانة ذاتها''، فالحظر والمنع (والتمنع والممانعة) لون من دلال الحبيبة، ثيمة تساعد على صوغ أو اختلاق إشكالياتنا السهلة وقضايانا البدائية.
أخشى كينغسبيرغ والكانطية، أشعر بالبرد حين أرى مثال فيلسوف القرن 19 وهو يتحول ''مؤنثا، شماليا''. أخشى الحرية، وأهرب مذعورا من صورة تجلت عليها في عراق العم بوش. ماذا كان يردد العظيم توم هانكس في رائعة ستيفن سبيلبرغ ''تيرمينال''؟ كان يقول لضابط الهجرة في مطار نيويورك: ''أحب بلادي (قراقوزيا) ولا أخشاها، لن أطلب اللجوء السياسي''.
مدينتي الـ12
تنقلت كالمجانين الذين أحبهم، بين مدن عديدة داخل العراق وخارجه، بحثا عن ''مكان أبلغ فيه الثامنة عشرة'' من العمر، كان الأكراد في الشمال يحبونني، لكن الشرطة الكردية تمنعك عن صعود جبل ''آزمر'' الخلاب، خوفا من عروبتك، وكثيرا ما يضعك رجال الأمن (ولديهم مبرراتهم بالتأكيد)، في طابور مع عمال آسيويين كي تحصل على رخصة إقامة داخل الجزء الكردي من عراقك. وحين تريد التقاط أنفاسك في الأردن، يخونك جواز سفرك العراقي الخاضع للبند السابع من الميثاق الدولي (تحت الوصاية).
لافتة الحانة الثمانينية تلاحقك بفحوى الحظر أينما حللت، وللمرء أن يحصي المدن التي أقمت فيها خلال 31 عاما مرت بسرعة من العمر: البصرة، النجف، كربلاء، بغداد، السليمانية، أربيل، المحمرة، الأحواز، ديزفول، قم، عمّان، الكويت.
مدن بنكهات مختلفة، مدن إيران التي يختنق فيها إرث الشاه العلماني بصرامة الدين الريفي المسيس حد اللعنة، الأكراد الخبراء بطرق قطع الأشجار والعثور على أقصر الطرق في جبال وعرة تاه على سفوحها الإسكندر غير مرة. عمّان التي تشعر فيها بغربة لكنك تحبها، الكويت التي لا تشعر فيها بغربة لكنك تتلمس حنينها إلى عهد انفتاح جعل منها تجربة خليجية مميزة فيما مضى. بغداد المقبلة على ما لم تعرفه من قبل. البصرة التي ما فتئت ''تخرب'' وتعود كالفينيق كي ''تخرب'' ثانية حتى سار بحديث خرابها الركبان. لافتات المنع ستلاحقنا في المدن التي زرناها وتلك التي لم نزرها بعد.
قراقوزياي حكاية جيل
لم أحسب أنني جريء كفاية للاعتراف بحنيني الجارف نحو أشكال السجن التي عرفتها، الحنين إلى سجن لم أدخله لأنني لم أغادره، سجن سميرة أمي التي لم يتسن لي التعرف عليها جيدا. خندق سيحان برائحة الطين ونكهة القبر. الشرطي الذي منعني من التدخين في المحمرة. الفوضى التي حسبتها حرية أخيرة قرب رائعة فائق حسن. الحانات الموصدة إلى الأبد في روحي، ''قراقوزياي'' أنا حيث الناس لا يبلغون عامهم الثامن عشر أبدا (حتى لو سمح لهم بدخول الحانة)... حكاية جيل بأكمله كان عمره مجرد مسافة بين دبابتين.
رائحة الشرق وغواياته جعلتني أكتشف معنى أن تخاف من الحرية، معنى أن يستحيل عليك المعنى، أن تحب الجحيم حتى في ''سوق الجنة''.