|
|
منقذ سعيد: لا بدوي ولا نبي |
|
|
|
|
تاريخ النشر
03/01/2009 06:00 AM
|
|
|
"عندما قال لي الطبيب إنه لا بد من البدء بالعلاج الكيميائي هربتُ من الموعد ومن لندن نفسها وها أنا في دمشق في مرسمي". بهذه الكلمات كان منقذ سعيد يردّ عليَّ وأنا أسأل عن أخبار صحّته. كان حواره طافحاً بالبهجة، ينفجر ضحكاً لأيّ إشارة أو مداعبة عابرة. ظل ممسكاً بالخط لأكثرَ من نصف ساعة وهو يتكلم من الخارج وفي كل مرّة أحاول أن أودّعه مؤكداً أننا سنلتقي وسنكمل حديثنا، كان يصرّ على التواصل وعدم قطع المكالمة. في تلك اللحظة أحسستُ بالخوف لأنني أدركت أنه يعرف أننا قد لا نلتقي وأن المرض لن يمهله أكثر. وهكذا ظل ممسكاً بالهاتف ينتقل من موضوع الى آخر بسرعة خاطفة وضحكة عالية ولهفة من يريد أن يمتصَّ رحيق اللحظات حتى آخر رمق. تركني في ذهول وإطراق. لم يغب عن مخيّلتي لفترة طويلة أتأمل منحوتته الرائعة أمامي "القارئ" التي فازت بجائزة "الأونيسكو/ كتاب في جريدة" في الذكرى العاشرة لكتاب في جريدة والستين للأونيسكو عام 2005. أمسِ كنتُ في دمشق أسألُ عنه. تلفونُه النقال لا يردّ. تلفون المنزل صامت والزوجة لا تردّ هي الأخرى. أسأل الأصدقاء: أين منقذ؟ محمد مظلوم الذي اختطف الموت زوجته وهي حامل بتوأم، هو الذي ردّ عليَّ من أعماق مأساته قائلاً؛ مات منقذ... هناك في هولندا. بدا محمد مظلوم مثل بورتريه شاحب معلقاً بين جدارين للموت. هكذا إذاً كان منقذ على حق. كان يعرف أنه لن يلقاني بعد هذه المكالمة ولهذا ظلَّ ممسكاً بها لا يريد إغلاق الخط الذي كان يلهو به مثل طفل. وداعاً منقذ سعيد، أيها الساحر الذي عرف كيف ينسج من خيوط الحديد والصدأ ملاءات وقصائد وطلاسم. ارتعاشاتٌ في قوام المعدن، تجاعيد في سطوح صدئة، قامات رشيقة من فولاذ، خجل في حمرة النحاس، كلّها في أداء نحتي يصل الى ذروته في تناسق وتموسق لا تحسنهما إلاّ أصابع منقذ سعيد. في الصالة الرئيسية لمبنى صحيفة "النهار" البيروتية تستوقفك منحوتته الرائعة "الكراسي" التي فازت بمسابقة "النهار" من بين العديد من المنحوتات، وتمثل سلّماً من الكراسي في التفاتة رائعة الى علاقة السلطة بالكرسي وانقلابه بالرشاقة والجمال التي كان يحسنها منقذ. عندما حدّثني منقذ سعيد وهو فخور بمنحوتته هذه واختيار "النهار" لها قال لي، إنه وضعها في أرضية يغطيها ماء لكي يواصل مشهد الانكسار، انكسار الكراسي والتهشم الدائم لأعمدة السلطة بالإضافة إلى ما يضيفه الماء من رقرقة وانعكاسات. هكذا كان ليس مجرد نحّات، بل شاعراً يكتب بأحرف من ماء وحديد وخشب. لم يكن يصدّق أن الحياة ستغمره يوماً بجمالها وعطائها بعدما عبر بادية الشام مشياً هارباً من سجون صدام حسين وبطش نظامه. يومذاك كان يقطع مئات الكيلومترات على الأقدام خارجاً من قبضة التنين. كانت الرمال اللاهبة تحت قدميه أوشحةً أرجوانيّة وملاءات يتدثر بها لساعات طويلة حتى أمسك به بدويّ يسأله عن هويته فقال له قبل أن يردّ عليه؛ أين أنا؟ وعندما عرف أنه في سوريّا صرخ بالبدوي "أنا أيّ شخص تريد... واسمي منقذ ولكنّك أنتَ المنقذ". هذه الحادثة يرويها منقذ سعيد ليقول إن حياته منذ ذلك اليوم خرجت من حدود الموت والمجهول. مثل مصباح يتدلى من عنق الشمس مضاءٍ بدمه الذي لم يقاوم اشتعال الغياهب والظلمات المحيطة به. مات منقذ سعيد وحيداً في مستشفى في أمستردام وانقضت أيام وأسابيع من دون أن يعرف أحد. لم يكتب أحدٌ خبراً ولا رثاء ولم تنشر أي صحيفة أو موقع في الانترنت خبر اختفاء واحد من أجمل النحّاتين العرب الذي فاز بجوائز عالمية. منحوتاته تزيّن اليوم متاحف نيويورك ولندن وسواهما من المدن الكبرى. لا أحد يتذكر منقذ سعيد لأنه لم يكن حاضراً في صالونات الصفقات وصفحاتها ومنابرها وتبادل الخدمات "وسرفيس" ما بعد البيع. كان منقذ سعيد وفياً لفنّه ولأصدقائه ولحريّته وللجمال، مرآته التي لم تخطئه قط حتى عندما رجَمها الموت بحجر غريب وهشّمها. وداعاً منقذ، أيها الطيف الراحل وأنت تعبر الآن البادية التي لن ينقذك فيها لا بدوي ولا نبي.
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ شوقي عبد الامير
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|