يوماً بعد آخر تزداد القناعة المحزنة عند جماعة من المثقفين العراقيين خارج البلاد (وعددهم كبير) بأنهم لا يقرأون بعضهم إلا لماماً وفي مناسبات صارت نادرة. تزداد ولا تقال صُراحاً لأن في قولها ما يخدش هيبة مثقف يُفترض به القدرة على متابعة الوقائع الثقافية، لكي يَرَ في الأقل موضع قدمه وسطها. إن شتاتاً في الأمريكيتين ووسط أوروبا وشمالها وفي أنحاء العالم العربي لا يسمح للمثقفين العراقيين بأن يقفوا على تصوّر موضوعي لمنجزات بعضهم، حتى عبر كتبهم المنشورة التي لا تصل إلا بصعوبات حقيقية. شتات لا يسمح كذلك لمن ينشر عملاً أن يقوم بإرساله عبر البريد لجميع قرائه ونقاده ففي ذلك تكلفة لا يطيقها،
ولا لمن يقيم معرضاً بأن ينقله مشافهَةً لا تغني ولا تسمن في حالة الفن البصري. ولا يسمح، بعد ذلك كله، بذلك التواجُه الشخصيّ، وجهاً لوجه، الذي هو عنصر معرفيّ ونفسيّ جوهريّ، يعزّز أو يفنّد قناعة معينة لدى الجماعات الثقافية ذات الأصول المعرفية المشتركة المزعومة. إذا استطاع مثقفون عراقيون توطين ثقافة ولغة جديدتين في أرواحهم، فقد حدث ذلك بثمن اتخاذ مسافة كبيرة مع الثقافة المحلية، تكاد تكون، عملياً، قطيعة مريحة. أنت ترى وجوههم في الصحافة وقد تغضنت ورؤوسهم وقد علاها الشيب ويقولون لك إن أولادهم وبناتهم يذهبون للجامعات وأنهم قد أصدروا للتو عملاً جديداً، بينما أنت لا تدرك بالفعل المتغيرات الحقيقية الواقعة في منجزاتهم الإبداعية وفي مصائرهم ووجودهم العميق، أضف لذلك بأنك، من حيث لا تدري، تحتفظ لهم بذكريات قديمة عمرها أكثر من ثلاثين عاماً، كما بقراءات مبعثرة وانطباعات نقدية شائخة، كأن زمنك الثقافي قد تأبّد في الأبد، وأن الماضي وحده من يمنحك الذائقة النقدية والجمالية. يندهش المرء من كمية الأعمال التي نشرها المثقفون العراقيون في الخارج ومن رصانة عناوينها، لكنه سيندهش يقيناً من أنها لم تصل للغالبية المطلقة من المعنيين كما يجب. وبشدةٍ سيندهش، مرة ثالثة، من تصوراتهم الخارجية، النهائية عن بعضهم التي تجاور “كمية” هائلة من الانطباعات الزائفة عن الثقافة في داخل البلاد وخارجها. يمكنك أن تتحقق من ذلك في المناسبة التي يشير لك فيها أحدهم فيما إذا قرأتَ رواية له أو شاهدتَ معرضه التشكيلي، وأجابتك إياه: كلا.. كيف يتهيأ لي أن أحصل عليه أو أشاهده وأنا في رقعتي النائية هنا. هنا وهناك ثمة انفصال مصحوب باطمئنان قلِقٍ حول معرفتنا بما يجري حولنا. عندما يستخدم المرء، واعياً، مفردة (المنفى) التي لا يحبها الجميع في العراق، فإنه أكيدٌ من وجود هوّة معرفية ما انفكت تتسع بين مثقفي الخارج أنفسهم، مفسحة المجال للأوهام من كل نوع، عن الذات وعن الآخر. ووجود شرخ لا يقل أهميةً بينهم وبين أقرانهم في الداخل. هذا الشرخ هو المعنى الخفيّ للمنفى حيث لا معنى آخر أشدّ إيلاماً ووضوحاً له سوى الانفصال عن الجسد الفيزيقي والروحي الذي يشدّنا لما نظن أنه عصبٌ في كينونتنا. يتحايل المنفيون على انفصام الذات ووَهْم المعرفة بمعاصريهم، باللجوء إلى الثقافات الحاضنة التي سيشتبكون أحياناً بتفاصيلها، بالتوازي مع الهجران التدريجي لثقافات بلدانهم ولأقرانهم في الجغرافيات المتباعدة. وفي ظني فأن استخدام الأنترنيت، على الطريقة العربية، يضيف وَهْماَ على وَهْمِ. ففي حين يمضي المتصفح سريعاً في محض تقليب متوتر للصفحات ومرور عابر على الأسماء والمقالات والقصائد فإنه يَحْسَبُ أنه قد اغتنى بمعرفتها. هكذا يصير ليل الثقافة العراقية طويلاً عبر النيت الذي سيوطّن، من طرفه، انطباعات الماضي لدى شريحة واسعة من المثقفين العراقيين. لم نسمع إلا لماماً مثقفاً يقول إنه قد “طبع” مقالة أو قصيدة من النيت وقرأها بهدوء بعيداً عن غواية الشاشة. هذا المثقف نادر حسب استقصاءاتنا وخبرتنا بمواطنينا. السرعة الفائقة وعدم التمحيص يحلان محلّ الدقة والعناية بالشريك الثقافي. أحد الأدلة المأساوية على غياب التمحيص هي أن هناك مِن مرسلي (الإيميلات) بالجملة للترويج لأعمالهم، مَن نسي أن يحذف إيميل الشاعرين سركون بولص وكمال سبتي بعد وفاتهما. وما زال يُرْسِل لهما الرسائل في ليل الأنترنيت البهيم. أمرٌ مُوْجعٌ. لم يستطع المثقفون العراقيون مُحاصرة الشتات الثقافي بفعلٍ ناجع. جميع المحاولات ذهبت إدراج الرياح، وما بقيَ منها صار تجمّعات اجتماعية لمتساكنين في بلدٍ أو مدينة واحدة، مجتمعين باسم الثقافة على ما هو بعيد أحياناً عنها. إن الريبة والغيرة وعدم الوثوق جوهرياً بالعمل الثقافي المتأسس على (التضامن) هي عناصر تفسِّر لنا ظواهر عدة. سيضحك بعض المثقفين سراً من فكرة (التضامن) التي تتساقط منها، بالنسبة إليهم، ظلال غريبة، وسوف يظنون قائلها ساذجاً وأيّ سذاجة في مناخ يلعب فيه كل امرئ اللعبة لمصلحته. الجميع خاسرٌ ضمن المنطق الفردانيّ كما أثبت الزمن. ولن تقنع هذه الكلمة بعضهم، لأنه مصاب بتضخمٍ زائدٍ للذات التي “تمتدح نفسها سراً وتذمها علناً”، على ما يقول مؤلف تراثي حكيم. النتيجة التي يمكن الخروج بها هي أن الشتات الثقافي يحاصر بالأحرى المثقفين العراقيين، رغماً عنهم حيناً وبإرادتهم أحياناً كثيرة أخرى. أليس مثيرا للحيرة عدم وجود مجلة ثقافية مستمرة الصدور لائقة بهذا العدد الهائل من الكتاب العراقيين في الخارج؟. أليس غريباً أن يلتفوا على الثقافات الأوروبية ويلتفتون إلى المثقفين العرب قبل الاهتمام بأنفسهم؟. أليس عجيباً تلك الحروب الصغيرة والكبيرة، العلنية والسرية، المُخجلة عبر الإيميلات وتعليقات القراء في المواقع الإلكترونية بين بعضهم؟. في هذا الجوّ الملبّد بالأشجان يصير الصمت حذقاً، والانطواء فضيلة، والقطيعة موقف أراديّ، والخسران نتيجة محتمة، والحلكة شديدة الوطأة برغم منافذ الضوء التي نتشبث بها جميعاً.
|