|
|
انتراكتيكا |
|
|
|
|
تاريخ النشر
21/12/2008 06:00 AM
|
|
|
في نهار الحادي والعشرين من تموز، وفي الساعة الثالثة وست وخمسين دقيقة قذف بي في صندوق سيارة ضيق وأغلق غطاؤه بإحكام.. كان "نيل ارمسترنغ"، في تلك اللحظة بالضبط، وقبل ثمانية وثلاثين عاما يضع أول قدميه على سطح القمر. وبينما تكللت بالنجاح تلك المغامرة البشرية الأكثر جرأة في تاريخ الإنسان كانت مغامرتي من داخل صندوق السيارة الخلفي قد بدأت. بدا ارمسترنغ، الأقرب الى الإنسان الآلي يتبختر في الظلام قبالة العدسات والتلسكوبات العملاقة، في قفزات عصفت بعصر قديم، راح يتهاوى من على سطح القمر، وأفزع أبي وأمي وجعلاهما يرتعدان من موعد اقتراب "أهوال الساعة".. بينما كان بعض المارة والركاب يتابعون برعب شديد مشهد سحلي على إسفلت الشارع الحار ورميي في الصندوق. كنت فرحا بذلك الارمسترنغ، منبهرا بمشهده الفاخر. وكم كنت أود لو أنه أعلن من هناك عن رفضه العودة الى الأرض مفضلا الانتماء الى عالم أقل قسوة، ولا أدري كيف راودت هذه الفكرة صبيا مثلي؟. غير أنني أدرك الآن، في هذه اللحظة، وبعد ثمانية وثلاثين عاما أنني كنت مصيبا حقا.. فكل ما يعرفه، أو ما لا يعرفه المارة والركاب الذين شهدوا اختطافي هو أن لي اسما جميلا مؤلفا من ثلاثة أحرف، ولقبا مؤلفا من ضعفيهما. ولكن لعنة هذه الحروف التسع التي حلت بي، مع حلول هذه الذكرى هي التي سحلتني من بين السيارات والسابلة وأودعتني في هذا الصندوق المظلم. لم أقو في تلك اللحظة على أدنى ممانعة. ولذلك استسلمت صاغرا لإنابة باقة عفنة من التجشؤات والأصوات القبيحة المتدفقة من مؤخرتي. وكان أقصى ما أتمناه في ظلمة ذلك الصندوق هو أن تتم تصفيتي بأقل قدر من الألم. لاشيء، قطعا كان يجمعني “بنيل" بعد عملية اختطافي سوى تجرع شراسة ذلك المجهول. ولكن أمله بالعودة من القمر الى الأرض كان أكبر بكثير من أمل خروجي من صندوق العربة!. حتى أنني كنت كلما مددت أصابعي لأتحسس ظنا ينقذني من ظن آخر ازددت قناعة بأن رائحة دمي كانت هي الأقرب الى الحل. فالبقعة السوداء المهتزة التي دفنت فيها كانت تزداد رعبا كلما ازدادت قرفصتي وتكوري الجنيني داخل بركة المياه المالحة والسوائل والقيء والبراز المصحوبة بروائح كريهة.. وحين كفت بقعة الظلام عن الدوران وسكنت، توقفت معها أجراس الهلاك كلها، وتوقف قلبي عن النبض، واختفى الطنين المدوي، وتمطى الوقت مخترقا كل نأمة ما زالت تصر على البقاء قبل وبعد رفع غطاء الصندوق.. لقد وصلت إذن الى حافة الموت مثلما وصل ذلك القرد المسكين، قبل أكثر من ثلاثة قرون على متن زورق صغير الى شاطىء "وست هارتبول" بانجلترا، وقضت محكمة عسكرية بإعدامه شنقا بتهمة التجسس لحساب فرنسا.. أنا عميل وخائن وجاسوس ومرتد لأن اسمي الجميل مؤلف من ثلاثة أحرف. ولأن لقبي مؤلف من ضعفيهما. ولذلك لن يحتاج قتلي الى أية محاكمة. "ولكنني سأقاوم حتما.. آه تذكرت.. أخرجت قصاصة من جيبي وحاولت قراءتها.. اللعنة. أين نظارتي؟.. قربت القصاصة من عيني بلا جدوى. ثم سلمتها الى أحد الملثمين أملا في قراءتها على مسامع الخاطفين. ولكن الملثم قلب القصاصة بيديه ثم رماها، وهذا ما جعلني أبتسم.. تذكرت ما قاله عامل المطعم "لاينشتاين" حين طلب منه قراءة قائمة الطعام عوضا عنه بسبب ضعف بصره:" أنني آسف ياسيدي، فأنا أمي جاهل مثلك تماما!". لم يمهلني الملثم فرصة التلذذ بابتسامة اينشتاين. مسكني من شعر رأسي. وقرب السيف من رقبتي.. وهنا كان لابد أن أصرخ.. أن أقذف لاءات ساخطة عذراء، معجونة بكل التباساتي.. أقسم أن صرختي كانت أعلى صوت سمع في العصر الحديث.. صرخة طغت على صوت بركان "كاراكتوه" الذي انفجر بعنف شديد قبل أكثر من قرن واستمر لمدة ست وثلاثين ساعة. أنا لا أملك في ظهيرة اغتيالي الحمراء، ولا حتى الآن أو غدا سوى تلك الصرخة المدوية التي جرفتني من عوالم الدنيا كلها وقذفت بي في ثلوج "انتراكتيكا".. هل سمعت صرختي في أميركا أو انجلترا أو اليابان أو غينيا بيساو ؟. لا شأن لي بذلك العالم القديم. عالم ما قبل اكتشافات " كريستوفر كولومبس". ولم أعد أأبه بعد هذا بقارات العالم الجديد.. أنا في أهوال انتراكتيكا الآن. في أبرد مكان في العالم، لا ينتمي الى قديمه أو جديدة.. هذا هو قمري السحري المكتشف ياارمسترنغ. قارتي المتجمدة الخالية من شرور البشر، والتي سأصمد في صقيعها لمدة ثمانية عشر يوما.. كل يوم سأمثل فيه دماء ضحايا مدينة عراقية.. دماء قانية كست الأرصفة والشوارع والساحات والحدائق العامة.. سأحمل معي أنين كل القتلى وحشرجاتهم وصراخهم.. وسأسعر صرختي ياارمسترنغ، استغاثتي المدوية التي ابتدأت من قطع رأسي. وسأمزج معها إغماضة أعين القتلى المخيفة وجفاف أفواههم الفاغرة. وسأطلقها مدوية في أقطار السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى. "ولكنك لست مؤهلا للإقامة في هذا القطب المتجمد يا فتى. وكان عليك، قبل هذا أن ترتدي سترة النجاة. وأن يكون بحوزتك أجهزة متطورة لتحديد موقعك عبر الأقمار الصناعية "gps". كما أن صرختك البدائية هذه فاقت مقياس "دي سيبل" للتلوث الضجيجي.. أنت مغامر بدائي يابني، قادم من مستنقعات عالم قديم. وعليك أن تصغي الى كلماتي قبل فوات الأوان ". ابتسمت مرة أخرى، أو كدت أضحك وأنا أستمع بذهول الى تعاليم الكابتن "جيمس كوك"، أول مغامر وطأت قدماه ثلوج انتراكتيكا. فأية صدمة ستصعقه لو عرف أنني فقدت كل مستمسكاتي الرسمية وغير الرسمية في حروب المستنقعات البدائية!؟. ومالذي سيقوله لو تأكد له أنني لا أعدو سوى صدى لإنسان قطع عنقه هناك لأنه كان يحمل اسما جميلا مؤلفا من ثلاثة أحرف ولقبا مؤلفا من ضعفيهما!؟.. لا أدري "يامستر كوك" كيف سأجعلك تنجو من قهقهة مميتة إذا ما عرفت أن الذي حز رأسي بالسيف كان ملثما أميا جاهلا مثل عمنا السيد اينشتاين تماما!؟. تركت السيد جيمس فاغرا فاه. وتوغلت في سلاسل جبال جليدية شاهقة. وبدأت أدرك أن هذه الصحراء الثلجية الشاسعة تكاد تكون خالية من البشر. وأن انقطاعها عن العالمين، القديم الجديد ليس بسبب برودتها الشديدة. ولا بتراكم هذه الطبقات الجليدية التي تغطيها على مدار العام، وإنما لأنها أكتشفت لتبقى انتراكتيكا حسب!.. واحة ثلجية لا تأوي غير العلماء المدفونين في قرى صغيرة مبعثرة تحت الأرض، ولا شأن لهم في هذه الدنيا غير مراقبة ثلوج معبودتهم الجميلة انتراكتيكا. حتى أن بعضهم بدا شديد القلق والحزن على انحسار أحد جبالها الجليدية بمعدل كيلو متر واحد في كل عام!. إنهم يستذكرون بأسى كارثة انفصال الرف الجليدي "لارسن إيه" عن القارة في العام 1995. وما زالت غصة انفصال الرف الجليدي "ويلك ينز" في العام 1998 تخنقهم. بل أن وجوههم الشمعية سرعان ما تنكمش كلما تطرقوا الى نكبة انفصال "لارسن بي" في العام 2002!. هذه الإنفصالات الثلاث تثير في نفوس الكائنات الإنتراكتيكية الرعب. وتجبرهم على الإعراب عن خشيتهم من تضاعف معدل الاحتباس الحراري الذي سيؤدي الى اختفاء محبوبتم قريبا، بعد أن تنهار مجموعات لا حصر لها من الطبقات الثلجية الضخمة في مياه المحيط، مبعثرة على شكل آلاف الجبال والكتل الجليدية العملاقة. وهذا ما ذكرني حقا بخشية أبي وأمي من اقتراب يوم القيامة حينما صدما بقفزات ارمسترنغ قبل ثمانية وثلاثين عاما على ظهيرة اغتيالي. اقتنعت بالفعل أن هذه المخلوقات المتجمدة غير معنية بصرختي. وعبثا أحاول أن ألفت أنظار قوم مخلوقين من ثلوج انتراكتيكا. كما أن قراهم الصغيرة المدفونة في الثلوج لا تأوي الغرباء القادمين من العالم القديم، حتى لو وصلوا إليها أجسادا بلا رؤوس.. إنني مخلوق من طين، وهم من ثلوج انتراكتيكا. ولابد أن يكون إبليس في هذه القارة اللامنتمية هو أنا وليس أحدا منهم.. أنا "الرجيم" الوحيد المنبوذ في هذه الهدأة. والذي كان يطلق عليه اسما جميلا مؤلفا من ثلاثة أحرف، ولقبا مؤلفا من ضعفيهما.. أنا مخلوق من دم مسفوح. ودمار مباح، قادم من مستنقعات عالم قديم تجاوزته اكتشافات كريستوفر كولومبس.. أنا مقطوع الرأس، نعم. جثتي مجهولة الهوية، وعليها آثار تعذيب. ولكن مالذي يعنيه كل هذا إزاء كارثة انفصال "ويلك ينز" عن انتراكتيكا!؟. هذه المتاهة ليست ضالتي اذن.. لا يمكن لهذا الجليد أن يخفي فاجعتي، أو يشعرني بنوع من الأمان.. ثلوج متراكمة منذ الأزل، عبرها "السيد كوك" ثم غزتها المختبرات ومراكز البحوث السلمية. وشيدت بباطنها بيوت تسكنها كائنات مخلوقة من وفر.. هذه الثلوج ليست جنتي. لا يمكن لانتراكتيكا الخالية من النخيل والأنهار والأعناب أن تغدو جنتي. انطلقت صرختي مدوية في سماء الصحراء الثلجية بعد ساعات من وصولي اليها. عبرت المحيطات والصحارى. وتوغلت في قارات العالمين القديم والجديد. ثم أمست أخبارا عاجلة على شاشات الفضائيات.. "مواطن عراقي يعتصم في ثلوج انتراكتيكا في محاولة منه للفت الأنظار الى المشهد العراقي الدموي.. عراقي يقوم برحلة في القطب المتجمد الجنوبي لمدة "18" يوما، أطلق عليها "أعراس الدم العراقية".. المئات من المنظمات الإنسانية تعلن تضامنها مع العراقي المعتصم في الدائرة القطبية الجنوبية.. تظاهرات واسعة تشهدها عدد من عواصم العالم للإعراب عن تحالفها مع العراقي المعتصم.. ناشطون من جنسيات مختلفة في طريقهم الى انتراكتيكا للانضمام الى المواطن العراقي المعتصم في الثلوج منذ عدة أيام". في اليوم الأول من أعراس عراقيتي الثمانية عشر رسمت على الثلج نخلة مائلة على ضفاف دجلة. ورسمت نوارس مذعورة، وزوارق مقلوبة تحيط بها جثث طافية. وزعمت أن هذه الخربشة هي بغداد. وفي صباحات الأيام التالية أضفت بقعا وخطوطا متعددة.. رسمت أنهارا وجبالا وأهوارا. ورسمت طيورا وأسماكا وشناشيلا. وكلما زار الضوء ثلوج انتراكتيكا رسمت مدينة عراقية جديدة، حتى لاح لي العراق أخيرا بكل نعمه فاحتظنته طمعا بالدفء ونمت. ولكن الجثة المشوهة المقطوعة الرأس لا تنام. تبقى مأخوذة بأنين مسحور تنثه ثقوبها ليلا ونهارا، حتى تلامس رأسها المحزوز ذات يوم، وتدفن معه وتهجع. أما في ثلوج انتراكتيكا، ومن داخل دفء الرسوم العراقية هذه، فإن ذلك الأنين يغدو أجراسا عراقية صاخبة. سمعت أصوات انهيارات جليدية وعواصف فاستيقظت فزعا. ولكنني لم أتعوذ من شر ما رأيت كما أوصاني أبي. ولم أبصق في كتفي الأيسر ثلاث مرات طبقا لوصايا أمي. فأنا جثة بلا رأس.. قلبي وحده كان يسمع ويرى. وكل ما سمعه، وكل ما رآه في خريطة العراق الثلجية هو وجوه مذعورة من رؤية جثة مجهولة الهوية. جثة مشوهة بلا رأس. كانت تراهم. وتصغي الى صراخهم الحاد، الذي لم يكن يختلف أبدا عن صرختي المدوية الممزوجة بصراخ آلاف القتلى، والتي أطلقتها في ظهيرة اغتيالي، بعد ثمانية وثلاثين عاما على قفزات ارمسترنغ العجيبة. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ عبد الكريم العبيدي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|