أكثر عناوين الكتب ذكاءً هي تلك التي تتبلور كعتبة أولى أمام النّص. يندرجُ كتابُ " تأبّط َ منفى " للشاعر العراقي عدنان الصائغ تحت هذه الفئة. فعنوانٌ كهذا, يُضيءُ أمام القارئ إشارة ً حمراء تستوقفه لتحيله مباشرة ً الى عبارة " تأبّط شرّا" , فترتبط مفردة المنفى بالشرّ , وتسلمك مفتاح النصوص التالية , بل وتلقي ظلالها عليها. وهكذا, سرعان ما تضيء أمامك الشارة الخضراء,فتبدأ بعبور بواباتِ النصوص متأبطًا لهفة َ سبر أغوار هذا المنفى المزدوج : حيث الوطن منفى , والمنفى موت, والوجعُ واحدٌ ولو تعدّدَتِ التسميات. أمّا الباب الأكثر الحاحا , لذا فهو الباب الأول الذي يطرقه الشاعر كي يتيح لكَ أن تدخل مملكته لتلمس َ بعضا من أوجاعه التي تشكلّ مرآة لأوجاع وطن بحاله, فهو ذلك (الخوف) من السلطان, الطاغية:
والعراقُ الذي نفتقد نصفُ تاريخهِ أغان ٍ وكحلٌ.. ونصفٌ طغاة (العراق-صــ 11)
وقد استحال هذا الخوف الى (رعب) أدّى الى معاناة الشاعر من شيزوفرينيا مرضية. فهو يكتب بالفطرة لأنّه مسكونٌ بالكتابة ولأنّ قدر الشاعر النقيّ الذي التزم بقضية وطن وحمل على أكتافه همّا انسانيا أن تظلّ حروفه تمشي وعلى كتفيها الصلبان (صــ 50),لكنّ ( الرقيب الداخلي) لهذا الشاعر الملتزم , يصحو من اللاوعي كلما بدأ النزف, كي يحذره من عاقبة هذا الفضح المتعمد لأوجاع هذا الشعب العراقيّ الطيّب بل وأوجاع كلّ شعب ما زال صامدا تحت مقصلة الاستبداد المجحف:
في وطني يجمعني الخوفُ ويقسمني: رجلا ً يكتب والآخرَ خلفَ ستائر نافذتي, يرقبُني (شيزوفرينيا- صــ 8)
أمّا الاحالة الى تاريخ هذه الومضة ,(1987), كغيرها من الاحالات, تبقى مؤشرا غير مباشر لهوية هذا الطاغية.
وهكذا نرى أن رعب الشاعر الذي قرر أن يتحدّى مقصلة الصمت , بنزفه , طغى على الديوان بحيث أنّه شكلّ موتيفا أساسيا له, فصار يرى أشباحا تتربص به لتقتنص من حياته, وظلّ الانتظار "طلقة مؤجلة" (أشباح صـ 28), بل وتكرر هذا الانتظار المفخخ في أكثر من موضع:
( أقلّ قرعة ِ باب أخفي قصائدي- مرتبكا- في الأدراج لكن كثيرا ما يكونُ القرعُ صدى لدورياتِ الشرطة التي تدورفي شوارع رأسي ورغم هذا فانا أعرفُ بالتأكيد أنّهم سيقرعونَ البابَ ذاتَ يوم وستمتد أصابعهم المدربة كالكلاب البوليسية الى جوارير قلبي لينتزعوا أوراقي و... حياتي ثم يرحلون بهدوء) ( هواجس - صـ 7)
نلاحظ تدفق الرعب على طول السطور:
* صدى لدورياتِ الشرطة التي تدورفي شوارع رأسي
*وستمتد أصابعهم المدربة كالكلاب البوليسية الى جوارير
بينما تنتصب المفردتين:( قلبي) ..و.. (حياتي) .. كلّ على سطر منفرد كإشارتيّ طريق لهما الأهمية القصوى في وجدان الشاعر المهدد بالاغتيال كضريبة على صدق نزفه. وهو يؤكد فكرة الشيزوفرينيا في أكثر من موضع , بل وتتشظى الذات الى عدّة ذوات في محاولة للتصدي لهذا القمع فنراه يصرخ:
يا ربّي, كم بابًا يفصلني عنّي (أبواب- صـ 5)
وهنا لا بدّ أن نتساءل: ما هو دور هذا الطاغية في بثّ سموم الرعب في النفوس وكيف ..؟! فنجد الاجابة في "ثلاث مقاطع من الحيرة" يقول الشاعر في احدها:
الشارع ملغومٌ بالآذانْ كلُّ أذن ٍ يربطها سلكٌ سريٌّ بالأخرى حتى تصل السلطانْ (صــ 12)
وهل يملك الشعب الطيب المطحون جوعا سوى تمجيد هؤلاء الطغاة سواء عبر الكلمات( الأدعية) أو عبر نحت (التماثيل) لهم في الساحات العامة :
يطلقون ( الطغاة) قهقهاتهم العالية على شعب يطحنُ أسنانه من الجوع ويبني لهم أنصابا من الذهب والأدعية (ثلاث مقاطع من الحيرة- صــ 14)
وهل يفطن الطاغية الى وجود هؤلاء المسحوقين في مملكته الا حين يحتاجهم للدفاع عن بقائه هو:
- ولكن أين شعبي الطيب؟ - لم أعد أسمعه منذ سنين فانفجرَ الواقفون على جانبيّ الرقعةِ بالضحكِ - لقد تأخرتَ يا سيدي في تذ ّكرنا, ولم يبقَ لنا سوى أن نصفــِّقَ للمنتصر ِ الجديد (رقعة وطن – صــ15)
ويستمر الشاعر في فضح حالات الاستبداد كحالة القتل الجماعي:
( الذين صُفُّوا في ساحة ِ الإعدام) (اتهام – صـ 19)
أجمل ما في هذا الشاعر كونه يكتب بعفوية انسيابية لذا تأتي القصيدة عذبة, شهية لا تستعصي على القارئ العاديّ, لكنها في الوقت ذاته تخاطب القارئ المثقف عبر لمسات جمالية تنسج حريرها من كلّ الخيوط فيأتي نسيجها متفردا, كما جاء في هذه اللمسة الفلسفية:
لحظة الانعتاق الخاطفة بماذا يفكر السهمُ بالفريسة ِ أم... بالحريّة (سهم- صـ 31)
أو تلك اللمسة الانسانية في قصيدة (نقود الله – صـ 31) حيث يصور الشاعر انعدام الانسانية في زمن مُبتلى بالمادية , فالكل يركض وكأنه الى حتفه يركض, وما من أحد يعطف على ذلك المكفوف المتسول الذي مدّ يده طويلا فما أتته الا رحمة من السماء على شكل بعض قطرات مطر, وكأنها نقود الله ,هطلت لتطفئ لظى يده الممتدة نحو قلوب لا تراه بل وحتى لا تشعر بوجوده ككائن له حق الحياة كغيره ممن مروا به وخاصة هؤلاء المكتظين بالأموال. وما أكثر تلك اللمسات الابداعية في هذا الديوان..!!
وهنا نتساءل, , هل هنالك أجمل من نصّ يأتي في متناول استيعاب القارئ فيحرك فيه ساكنا بحيث أنّه يحرضه على رفض الخنوع , فدروس التاريخ علمتنا حتمية انتصار المظلوم على الظالم مهما تمهل الزمن, كما جاء في قصيدة:"درس في التاريخ" للصائغ حيث ينذر بانكسار امواج الزمن على صخور صمود الشعوب المنحنية:
ونحن نتأمل خرير مياه التاريخ ونبتسم بعمق ٍ لأمواجهِ التي ستتكسر عما قليل أمام صخورنا (صـ - 24) |