... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
المثقف والاغتيال 1

عدنان الصائغ

تاريخ النشر       27/07/2007 06:00 AM


الذي قتل لوركا لم يكن سوى شاعر فاشل أغاظه النجاح الباهر الذي حققه شاعر القيثارات الغجرية فوشى به إلى فرانكو…

وهكذا افترق الشاعران:

ذهب الثاني، إلى النسيان، وضاع تحت أحذية السلطة، فلم يعد يذكره أحد إلا إشارة ذميمة إلى عار المثقف الذي يرتضي لنفسه أن يتحول إلى تقرير أو ممسحة أو مسدس…

وذهب الأول، مفتوح العينين، يتطلع إلى القمر، وهو يمشي هادئاً بين فرقة رجال الإعدام، الذين أطلقوا عليه الرصاص فخمد جسده النحيل، لكن روحه بقيت وهاجة ترتل أغنياته الغجرية، تحت أقمار العالم وبين أشجار الغابات، وظل صوته خالداً على شفاه الأجيال، لا يستطيع إخماده كل رصاص القتلة…

ولم يكن لينتبه جنرالاتنا لخبايا القصائد لولا ما تبرع به هؤلاء الفاشلون بكتابة التقارير التي تشرح لهم ما خفي من معاني النص وتأويلاته وتحريضاته…

وحين أدرك المسؤولون في بلادنا أهمية هؤلاء بدأوا في تقريبهم ومنحهم الهبات والمناصب وتعيينهم عيوناً حارسة في الشارع الثقافي وآذاناً سرية تسترق السمع لخلجات روح المثقف وحواره الداخلي بالإضافة إلى تعيينهم رقباء على الأجهزة الثقافية ودوائر المطبوعات…

والأدباء الفاشلون أنواع وليس كلهم من هذا الصنف. منهم من يؤمن بقدره الذاتي فيوصد دكانه الأدبي ويروح يفتش له عن مهنة أخرى أكثر راحة وربحاً من هذه المهنة الشاقة التي لا يجني الكاتب منها في بلادنا سوى وجع الرأس والمخاطر…

وهذا النوع من الأدباء يمكن أن يبقى صديقاً حميماً للأدباء يتابع أخبارهم بين آونة وأخرى. يبرحه الحنين فيقترب، وتحبطه المشاكل أو تلهيه المشاغل فيبتعد. وهو بين هذا وذاك يبقى على الهامش دائماً متذكراً أمجاده الغابرة أو فتوحاته الوهمية، راضياً بذلك أو يحاول إقناعك برضاه، معيداً إليك صدى بيت امرئ القيس الشهير:

لقد طوّفتُ بالآفاق حتى

رضيتُ من الغنيمة بالإياب

لكن بمعنى مقلوب!

ولا ضرر أن تأخذه العزة بالإياب، فيصرح لمن حوله إنه لو أستمر في الكتابة لقلب دنيا الأدب، رأساً على عقب… وحين يسمع ببروز أديب من أبناء جيله لا يتردد عن الترديد بأن هذا الأديب كان تلميذاً له يصحح أخطاءه اللغوية وأنه كان يعلمه كيف يكتب…

وأذكر مرة إنني وصديقي الشاعر عبد الرزاق الربيعي كنا في زيارة أحد الفنانين المسرحيين واكتشفنا بعد أن خرجنا من بيته أنه لم يعرض لنا سوى البومات صوره القديمة مع كبار الفنانين والفنانات الذين كانوا من قبل زملاءه بل كان هو أفضل منهم في بداية الرحلة. لقد تجمدت ذاكرته تماماً على الماضي فكلما حاولنا أن نجره إلى الحاضر، إلى الحديث عن أعماله الجديدة، إلى مشاريعه المستقبلية، غافلنا وراح يقلّب لنا صور الماضي.. فأدركنا أن الرجل نفدت بضاعته. وفعلاً كان كذلك، حيث ظل أسيراً لماضيه، لا يقدم شيئاً حتى تناساه الناس وضاع في زوايا النسيان إلى الأبد…

وأذكر أدباء آخرين كلما سألتهم عن أسباب توقفهم عن الكتابة أجابوك بأنهم انسحبوا عن عالم الكتابة تأففاً، أو ترفعاً، أو تأجيلاً مشروطاً بتغير الظروف، أو عدم قناعة بالوسط الثقافي وبما يكتب وينشر هذه الأيام، والخ من العلل والأسباب التي لو لم تكن هي لأوجدوا غيرها، فما أسهل التبرير وما أشق الرحلة. وهذه الادعاءات وغيرها ليس لها من جانب ضرري إلا على صاحبها وفي إطار ضيق جداً.

لكن الأكثر إيذاءً وقسوة يكمن حين يتحول هذا الفشل إلى حقد أعمى يطال المبدعين ويوزع عليهم تهمه وشتائمه وعقده، فما أن يسمع الأديب الفاشل بنجاح أديب أو اشتهار كتاب أو فوز مبدع حتى يرتجف هلعاً ويروح ينفث سمومه في زوايا المقاهي وأروقة المؤسسات، متبرعاً بالقدح والتشهير وكيل الشتائم وإلصاق الصفات المجانية وحياكة المؤامرات وغيرها… ربما لاعتقاده الباطني أن هذا المبدع قد أخذ فرصته، وأنتزع الأضواء عنه.. بينما الحقيقة - التي لم يدركها أو تغافل عنها – أن نجاح زميله، ما كان ليستفزه، إلاّ لأنه كشف للآخرين، ولنفسه، فشله وكسله واحباطه.

وكان يمكن لهذا النجاح - لو أراد - أن يكون حافزاً خلاقاً لتحريضه على المنافسة الإبداعية الشريفة وبذل الجهد والسعي إلى التجاوز… ولو كان قد أبعد نفسه ووقته عن سفاسف الأمور وبذل على عمله الإبداعي ما بذل من ذلك الوقت والجهد، لكان يمكن أن يقدم شيئاً يغنيه ويغنينا…

ويمكن أيضاً أن يبقى هذا الأمر رغم سلبيته، محصوراً على نطاق الإيذاء الثقافي أو الاجتماعي في التشويه أو التهميش الذي لن يستمر طويلاً. غير أن خطورته المميتة تكمن حين يمتد في أحيان كثيرة إلى نطاق الكيد السياسي ويتجاوزه إلى السجن والنفي والتصفية والإغتيال…

فإذا كان سانت بوف في معرض حديثه عن شاتوبريان يذكر قائلاً: "لقد كنت أرتعش حين أرى شعراء حقيقيين ينصرفون للعمل السياسي"، فما سيقوله أمام غير الحقيقيين، وأمام العمل اللاسياسي واللاأخلاقي؟.؟

فهو قد يتحسر على ضياع الموهبة في دهاليز السياسة ومكاتبها وتحويلها إلى دكان صغير ناطق باسم هذا الحزب أو ذاك حيث يمكن بعدها أن يغريه الأمر ليصبح بوقاً مدوّياً، رغم عدم انطباق هذا الأمر على الكثيرين، غير أن هذه السهولة ستغري غير الحقيقيين فهم بالإضافة إلى نشوئهم بالأساس كأبواق أو أجهزة استنساخ أو آلات محركة، يمكن بقليل من الرشاوي أو الضغط من قبل السلطة، أن يتسع نطاق عملهم ليشمل كتابة التقارير عن الأدباء بدل القصائد والقصص. وملاحقة المبدعين المعارضين في الداخل والخارج والمساهمة في تصفيتهم…

يقول الشاعر بلند الحيدري: "لستُ مع الشاعر الذي توظفه السياسة في جهد شعري مسطّح وكأنّه مقال سياسي، وأنا أخاف على الشعر وقيمته من هؤلاء…".

لكن الخوف اليوم لم يعد على الشعر فحسب، بل تعداه إلى الخوف على الشعراء الحقيقيين أنفسهم من بعض كتبة الشعر…


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عدنان الصائغ


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni