محمد مزيد لا تأتي اليك هذه الرواية بسهولة ، ذلك لان الروائي نجم والي ، قد جعل المراوغة سبيلاً لافراغ شحنات من الغضب والالم كان قد عاشه بطله في بلاد " المنتصرين والخاسرين " . ولعل انتحال الاسماء وارتداء الاقنعة واستبدال الهويات ، كانت الثيمات الاساسية لها ، وكأن المؤلف اراد القول ان كل واحد منا يمكنه ان يكون " يوسف ماني " او ان يكون اخاه الاكبر " يونس " الذي ينافس اخاه الاصغر حتى في حب الفتاة ذات العينين الخضراوين والجدائل الشقر .. والحب هنا في هذه الرواية يشكل عنصراً بالغ الاهمية ، فهو ليس حباً عابرا مشبوبا سيؤدي الى افراح الجسد ، فيريح ويستريح العاشقين في عاطفة تؤدي بهما الى الانصهار في المآل الاخير له اما الهجر او الزواج ، كما اعتادت الروايات الكلاسيكية وروايات التسلية تمرير خطابها ..
في هذه الرواية ، وجدنا الحب معزوفة الم ، يعزفها الروائي منذ السطور الاولى ، ينسج فيها ومعها نشيجه الداخلي ، يقول فيها اقواله التي لايمكن احتواؤها الا من اكتوى بنيران عذاب بلد نخرته المواجع والخطوب والحروب ، واستبدت به قوى الشر والطغيان خمسة وثلاثين عاما ، فالروائي هنا ، لايريد ان يحكي قصة بسيطة تتحدث عن فتاة ذات جدائل شقر وعينين خضراوين ترتدي فانيلة زرقاء يقع في هواها يوسف وينافسه عليها اخوه يونس ، بل يدخلنا في عالم غامض متشابك ليس من السهولة بمكان حل ألغازه واسراره ، يونس الاخ الاكبر يغار من اخيه فيدبر للعاشقين يوسف وسراب مكيدة قاسية ، مكيدة مدمرة ، تؤدي الى مقتل الفتاة ، وقد تلبس بالجرم حبيبها حين قدم اليها كعكة ممتلئة بالمسامير لتمزق احشاءها وتطرحها قتيلة في مكانها. وهي لاتتحدث عن قاتل اصبح طليقاً ، فيما ذهب الضحية يوسف الى السجن ، بل سنرى ان يونس القاتل الذي يعمل في اجهزة حكومة الـ 35 عاما الاستبدادية ، ويعذّب المساجين ، الهاربين من الحروب ، ويحوّل صيحاتهم الى اسماء لبناته الاربع ، شفقة ، رفقة ، رأفة ، رحمة . سنراه في زمن اخر ، ضحية للجنون . لاحظ التقنية البالغة التعقيد التي اضفاها الروائي على الاسماء في لعبته السردية المثيرة للدهشة والاعجاب ، فالجلاد يحول نداء ضحاياه بالشفقة والرحمة والرفق والرأفة ، الى اسماء بناته .. وكأنه يريد التكفير عن ذنوبه بازجاء تلك الاسماء الى اعز مالديه . و لعبة تبديل الاسماء ، في رواية "صورة يوسف"، تبلغ انضج مراحلها من خلال الدوران بالحكاية التي يسردها الراوي العليم ، على مستويات عدة ، تختلط فيها زوايا ووجهات النظر ، حيث سنرى وقائع تفاصيل حياة بلاد استبد بها الجلادون ، ليس على شاكلة يونس الذي قتل حبيبة أخيه يوسف ، بل ابشع منه واكثر قسوة ، بلاد تقتل ابناءها اشنع تقتيل ،وتزج بهم في حروب وهمية ، او الحروب ذات الشعارات الخرقاء ، فيما يصيب الناس حالة من الذهول وهم يحاولون نسيان ما يتذكرون ، او يتذكرون ما يحاولون نسيانه ، كما يقال ذلك على لسان احدى شخصيات الرواية ، ويتشاكون في محو اخبار الصدمات القاسية التي احدثها الانهيار الكبير ، انهيار صروح القيم والمثل الانسانية العليا . دوران الحكاية يستمر عبر شخصيات أُحكم اغلاق الاسرار عليها ، فكل راوٍ،ً يقدم جزءاً يسيراً ، من ملحمة النسيان ، أو ما اراد الناس نسيانه ، ويبدو ان اللعبة ، اية لعبة كانت ، تبديل الاسماء ، او ارتداء الاقنعة ، او استبدال الهويات ، بقدر ما كانت متقنة في احيان كثيرة ، فهي ممتعة ومضحكة ، في احيان اخرى ، اذ نكتشف انها ليست قصة يرويها اشخاص معتوهون ، بل هم حيوات تم تنميطها او نمذجتها لتكون شاهداً على عصر اكتظ بالفجيعة الانسانية التي مرت على بلاد المنتصرين والمسحوقين ، حتى يخيل لي انا القارئ ، ان هذه القصة قد لا تكون حقيقية مطلقاً ، او قد تكون رغبة مجنونة دافعها رسائل بعثتها قارئة الى الراوي لكي يروي حكايتها " رسائلها العبقرية تحوي كل شيء ، تصف بها حياتها اليومية ، علاقاتها بوالديها في المدرسة واخواتها في البيت ، الى علاقاتها بصديقاتها في المدرسة وجولاتها في الشارع ص 269 " . ولانعدم الظن ان صاحبة تلك الرسائل هي سراب نفسها ، الفتاة التي قتلت عند تناولها الكعكة ، وهي الفتاة نفسها التي تزوجها يوسف فيما بعد ، وهي نفسها التي طلبت من يوسف تقمص دور اخيه يونس على فراش الزوجية بعد ان اصبحت لعبة تبادل الهويات وارتداء الاقنعة تبريرا للوجود في الحياة . وعندما يتورط يوسف بمقتل الفتاة ، حبيبته ، ذات العينين الخضراوين والجدائل الشقر ، يسجن في اثناء حرب الخليج الاولى ، الحرب العراقية ـ الايرانية التي عاش نجم والي سنتها الاولى ثم غادر البلاد الى منفاه ، ليستقر حاليا في برلين ، ويخرج يوسف من السجن ، وينطلق في الحياة الجديدة ، متخفيا ، متوارياً عن الانظار ، هاربا من ويلات الحرب ، ليكتشف فيما بعد ان اخاه يونس قد انتهى مصيره الى المجهول ، هنا ، يلعب يوسف لعبته الخطرة في الحياة الجديدة ، اذ يتقمص دور اخيه المجهول ، يرتدي قناعه ، ويستبدل هويته ، ويأخذ اسمه ، فيصبح هو الجلاد في بلاد المنتصرين والخاسرين وينزع عنه قناع الضحية ، فيوسف لا يكتفي بتقمص الدور على فراش الزوجية ، لتصبح مريم زوجة اخيه ، زوجته ، وبنات اخيه شفقة ورحمة ورأفة ورفقة بناته ، بل يتعدى ذلك الى ارتداء ثياب الاخلاقيات التي كان يتصف بها يونس ، عندما كان في زمن الاستبداد جلادا ، في حين يصبح يونس في زمن التغيير الجديد لما بعد نيسان 2003 مناضلا واخلاقيا. اللعبة اصبحت اشد وقعا ، سرديا ، واقتنع يوسف ان حياته هذه هي حياة حقيقية فيذهب الى زوجة اخيه التي لاتمانع ان تغفل جانبه وتستمر معه في اللعبة نفسها ، وتنطلي على خالته العمياء التي لا تعرف ان محدثها يونس وليس يوسف فيما تخاطبه مريم " تعال ، يا زوجي يونس" . " كان يجلس هناك حتى ساعة متأخرة وقد استحوذ عليه الخوف ان يذهب الى بيت اهله في عمق الليل ، لانه كان يعرف بأنه سيجد زوجة اخيه كما هي عادتها يقظة تتنصت لوقع خطواته وتناديه حالما تراه " يونس " وعبثا يطلب منها ان تترك الاسم ، فهي تعرف بانه ليس يونس ، وبأنه ليس اخاه ، وكلما زاد نفيه ، زاد إلحاحها ، ومع الوقت ما عادت تكتف بمناداته من سريرها في الغرفة ، انما راحت تقف له تنتظره عند مجاز الدار ، وتسحبه ليدخل ، وتقول له " يونس زوجي ، تعال عاين بناتك " .. ثم تجره الى الفراش ص 97 " . اللعبة الخطرة لم تنته عند حدود فراش الزوجية ، بل تتعدى الى تأدية دور الجلاد باوراق اخيه الثبوتية ، وهي محاولة ارادها يوسف ان تتم بوعيه وارادته ، كي ينجو من ويلات الحرب ، فيجهز نفسه لمواجهة عشرات الضحايا الذين جلدهم اخوه يونس في السجون والمعتقلات ، وان يكون مستعدا لقذارة الاخلاقيات التي يتصف بها جلادو حكومة الـ 35 عاما في بلاد المنتصرين والمسحوقين . غير ان اختفاء يونس في المصير المجهول دام طويلا ، لنكتشف فيما بعد ان يوسف قد تزوج سراباً ، وهي ليست القتيلة على اية حال ، لعل يوسف اراد تسميتها بسراب حبا بالمغدورة التي قتلت وهي بعمر الحادية عشرة على يديه جراء تناولها تلك الكعكة ذات المسامير ، سراب هذه ، ابنة معلم درس الانكليزية عاصم ، الذي جلب ابنته الجميلة ذات العينين الخضراوين والجدائل الشقر الى الصف الذي يدرس فيه يونس ويوسف ، وعندما يغيب يوسف في دهاليز السجون يعود الى زوجته سراب فيراها قد حملت ولم يعرف كيف حملت ، لان غيابه كان طويلا ، من المؤكد ان سراب الزوجة ليست هي نفسها القتيلة ، والتي دفع مقتلها بأبيها المعلم عاصم الى الجنون حيث يدخل مستشفى الامراض العقلية ، ليلتقي في المكان نفسه بجلاده ، يونس ، بعد ان اصيب هو الاخر بالجنون حينما كان عقيداً في الجيش ويمارس اثناء الخدمة كل انواع الطغيان والاستبداد بحق الجنود والناس . وحالما تسنح ليونس الفرصة ، بعد انهيار الدولة العراقية ما بعد نيسان 2003 يهرب العقيد من مستشفى الامراض العقلية ويذهب الى الحياة الجديدة لينتقم من كل الذين دفعوه الى الهاوية، اولهم اخوه الذي كان محبوبا منذ الصغر ، احبته تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخضراوين والجدائل الشقر . الم اقل انه نشيد للحب ، ولكن بطريقة بدت لنا رياحه عاصفة حيث تبدلت الاسماء والوجوه والهويات ، واصبح الجلاد ضحية فيما تحول الضحية الى جلاد ، حيث يلتقي الكل هناك، في حانة المدينة ، جوزيف ك مزور الهويات ، ويونس الذي يعترف بجرمه لاخيه ويوسف الذي يبحث عن قناع يتخفى فيه ، يلتقون في تلك الحانة ليرووا حكاياتهم ، كل واحد منهم يروي حكاية اخرى لا تمت له بصلة ، قد تشبه حكاية من يصغي اليه ، او تكون حكايته حقيقة ، الكل يتنادمون في تلك الحانة كما وصفها الشاعر البرتغالي بيسوا والكل يرتدون الاقنعة ، والكل يحملون اسماء غير اسمائهم ، في حين نجد ان قصيدة بيسوا قد الهمت نجم والي في انجاز هذا العمل الروائي الذي استطيع القول عنه انه احد الانجازات الروائية العراقية المبدعة في المنفى ، وقد القى هذا العمل تأثيره في اعمال عراقية اخرى يمكننا تفصيلها في مقال اخر. |