لاقت رواية "خلف السدة" للكاتب عبد الله صخي الصادرة عن دار المدى أصداءً طيبة مع انها العمل الروائي الاول بعد شوط طويل في كتابة القصة . وهو واحد من مثقفي العراق الذين اختاروا المنفى تخلصاً من سياط الدكتاتورية .. ولد ونشأ عبد الله صخي في بغداد لعائلة كادحة. بدأ رحلة العمل مبكرا، فهو يتذكر أن أول عمل قام به حين بلغ أربعة عشر عاما. بعد ذلك بسنتين جاءت مرحلة العمل في البناء أثناء العطلات المدرسية حتى دخول الجامعة المستنصرية لدراسة الأدب الانكليزي. وقتها توقف عن العمل في البناء وبدأ سيرته المهنية في الصحافة العراقية. حين بلغ الرابعة والعشرين نشر بداياته القصصية داخل العراق. غادر العراق الى لبنان عام 1979 واصدر هناك مجموعته القصصية الأولى بعنوان "حقول دائمة الخضرة".
انتقل الى دمشق فأقام فيها نحو عشر سنوات ترجم خلالها مجموعة قصصية المانية لهرمان هيسه بعنوان "أنباء غريبة من كوكب آخر"، ورواية افريقية بعنوان "النهر الفاصل". عمل في العديد من الصحف العربية والعراقية، ومحطات الإذاعة والتلفزيون ووكالات الأنباء. رواية "خلف السدة" هي الأولى له.. جريدة المدى حاورت الكاتب والقاص عبد الله صخي:
*من أين بدأ عبد الله صخي؟ وما مكوناته؟ كيف تشكل كما نراه اليوم في رواية "خلف السدة".؟ - في محيط يزخر بالألم والأحلام والتطلعات، عمال وطلبة وحرفيون وجنود وشرطة ونسوة معذبات بالخسائر والفقدان والأمراض. في مثل هذا المحيط الجميع يشتركون بالألم والأحلام والتطلعات. جيل يتطلع إلى أبنائه، ينتظر تعليمهم. إنه يفني سنوات عمره بالكدح والقسوة وهو يتأمل غرسه أن ينمو ويرفع عن جسده المثقل بالاحتياجات، ذلك العبء الذي لم يعد قادرا على الاستمرار بحمله. كنا في "مدينة الثورة" في سبعينيات القرن الماضي. يومها كانت تلك المدينة، خاصرة بغداد الحزينة المهمشة المقصية، تبحث عن دور لها، دور يعيد الاعتبار لمشيديها وروادها، ذلك النسيج الاجتماعي الأخاذ في تلونه وتجانسه وتباعده واضطرابه. من هذا الرحم الرهيف نهضت كوكبة من الشعراء والقصاصين والمغنين والممثلين والرياضيين إلى جانب مشاريعهم السياسية التي كانت تتوقد في دواخلهم من اجل تطوير ليس مدينتهم فحسب إنما العراق كله. فكان للأفكار اليسارية والديمقراطية حيز كبير يوشح آمالهم بالحقائق والأوهام. حين جئت إلى ذلك الوسط وجدت أمامي كريم العراقي، فاضل الربيعي، عواد ناصر، سيف الدين كاطع، عريان السيد خلف، كاظم إسماعيل الكاطع، حميد قاسم، فالح الدراجي، جمعة الحلفي، عبد جعفر، داود سالم، مهدي علي الراضي، خزعل الماجدي، عبد الحسين صنكور، وغيرهم من الذين سينضمون إلى المشهد هذا كشاكر لعيبي، ورعد مشتت، وفاروق يوسف، إلى جانب حسن موسى، والمغني رياض أحمد القادمين من البصرة. كانت التجربة الستينية في القصة العراقية ما تزال ماثلة بقوة في ذهني، برؤياها التجريبية التي أحسب أنها ابتعدت قليلا أو كثيرا عن صورة الواقع الذي كنا نحياه. من أين ابدأ؟ كان هناك كتاب ستينيون (عذرا لهذا التقسيم المتعسف فهو لا يعني لي سوى مؤشر تواريخ، ذلك أن بعضا منهم لا يزال حاضرا بجهده الإبداعي المميز في المشهد الثقافي العراقي، إذن هو ينتمي إلى الأدب العراقي بمجمله وليس لعقد من السنوات). أقول كان هناك كتاب ستينيون ظلوا أمناء للتجربة الواقعية كما رأيناها في الخمسينيات لدى عبد الملك نوري، وغائب طعمة فرمان، وفؤاد التكرلي، ومهدي عيسى الصقر. ومن هؤلاء الكتاب فهد الأسدي، محمد خضير، محمود عبد الوهاب، جليل القيسي، إبراهيم أحمد، موفق خضر، فاضل العزاوي، عبد الستار ناصر، موسى كريدي، عائد خصباك، وجمعة اللامي الذي كانت اشتغالاته تنوس بين التجربتين حتى توجهت في ما بعد إلى المنحى الخمسيني، كما أرى، خاصة في قصته "الثلاثية الثالثة" بعد التجريبية التي عرضها في "ليل في غرفة الآنسة م". يومها أطلعت على دراسة قيمة للكاتب أنور الغساني بعنوان "أمراض القصة العراقية القصيرة"، بحث فيها النتاج القصصي الستيني. تلك الدراسة دلتني على الطريق الذي ينبغي أن اسلكه، فوجدت في نتاج الكاتبين المرموقين فهد الأسدي ومحمد خضير، باعتبارهما سليلي النتاج الواقعي الخمسيني بامتياز (كما أحسب)، ما يتوافق مع رؤية أنور الغساني، وما يتطابق مع النهج الذي سأختطه لنفسي لجهة البيئة التي تحيطني، البيئة الزاخرة بالألم والأحلام والتطلعات، كما اتضح في مجموعتي القصصية "حقول دائمة الخضرة"، أو في روايتي "خلف السدة" التي صدرت مؤخرا.
*البيئة منحتك نعمة تأملها ومجريات أحداثها وهذا ما أشرته روايتك الأخيرة "خلف السدة" أتتفق معي بأن البيئة من ابرز مكونات الموهبة؟ - البيئة بالمعنى الواسع للكلمة قد تنهض بالموهبة وقد تدمرها. ففي بيئة فقيرة شبه فلاحية يتلظى الآباء فيها بسياط الفاقة والبؤس لا يتطلع أحد إلى الموهبة، إنما يتطلعون إلى زج أبنائهم بالعمل مبكرا، أو إلى التعليم. إنهم يحرمون أبناءهم من النظر إلى مواهبهم الكامنة. من كان يجرؤ أن يقول لوالده أريد أن أصبح مغنيا، أو راقصا؟ أو رساما؟ ستنهال عليه الشتائم والركلات وشتى أنواع التوصيف البذئ. لكن في بيئة أخرى ميسورة أو متوسطة الحال يمكن للابن أن يعلن رغبته بأن يصبح موسيقيا. وقد توفر له أسرته الأسباب التي تجعل منه موسيقيا. لقد عشنا تجربة صاعقة من القمع الاجتماعي والسياسي في البيت والمدرسة والشارع والعمل ما تسبب بضمور المئات من المواهب. ثمة مواهب قليلة متمردة مضغوطة تنفجر يوما ما كالينبوع لتطلق نشيدها المحبوس منذ سنوات. هذه الموهبة سوف تبدأ بالتشكل والتكوين وتنهل من مصادر البيئة الثرية ما يجعلها قادرة على جذب اهتمام الآخرين ومن ثم الاعتراف بها.
* المنفى سرق عددا غير قليل من مثقفي العراق، هل أدت الثقافة دورها في تعرية وفضح النظام الدكتاتوري المنهار وما هي طبيعة الفعاليات والنتاج الذي أدى هذا الدور؟ - في تصوري لم يكن أمام المثقف العراقي في الخارج فرصا طبيعية لأداء مثل هذا الدور. المثقفون العراقيون واجهوا حصارا في البلدان التي أقاموا فيها. فالدول العربية كانت على وفاق مع النظام السابق باستثناء القليل جدا. كان من الصعب على مثقف عراقي أن يخترق الأسوار التي إقامتها المنظمات الأدبية والثقافية الرسمية كاتحادات الكتاب، ونقابات الصحفيين على سبيل المثال. كما أن البعض من مثقفينا عانى البطالة، أو قلة فرص العمل، فانصرف إلى تدبير يومياته وشؤون أسرته. ومع ذلك، مع تلك الظروف القاسية المذلة في العالمين العربي الأوروبي، نهضت حزمة مضيئة من الكتاب والصحفيين فأسسوا تجمعاتهم واتحاداتهم، وأصدروا مجلات وصحفا، مثل "البديل"، و"المجرشة"، و"نصوص"، و"الاغتراب الأدبي" و"اللحظة الشعرية"، وقبلها مجلة "أصوات". كما واصل العديد من الكتاب سيرتهم الأدبية ونشروا نتاجا مهما ينتمي إلى الأرض الأولى. لكن، ذلك النتاج الأدبي والمهني، لم يصل، للأسف، إلى القارئ بسهولة كي يؤدي دورها المفترض، إذ غالبا ما كان يرتطم بجدران المؤسسة الرسمية التي تقيم علاقات طيبة مع النظام السابق.
* شاع مصطلح(أدب الداخل وأدب الخارج) كيف تنظر إلى هذا المصطلح؟ لا أميل إلى هذا الفصل القاطع. هناك تجربتان إحداهما تتصل بالأخرى بصرف النظر عن الموضوعات التي تطرحانها أو مكان انطلاقها. إنهما تتماهيان وتتجاوران على امتــداد العقود الثلاثة الماضيــــــــة. لا أحسب أن رواية مثل "آخر الملائكــــــة" لفاضل العزاوي، أو مجموعة مثل "ليل يصدح فيه الطير" لإبراهيم أحمد، أو شعر سعدي يوسف، عبد الكريم كاصد، فوزي كريم، عواد ناصر، صادق الصائغ، محمد سعيد الصكار، فاضل السلطاني، وليد جمعة، رياض النعماني، مظفر النواب، كريم العراقي، أو غيرهم الكثير من الأدباء والكتاب، لا أحسب أنها تندرج ضمن (أدب الخارج). أعتقد أننا بهذا التقسيم نظلم التجربة الأدبية والفنية للمنفيين وبالتالي نظلم سيرة الأدب العراقي برمته. أرى أن هناك تجربة واحدة أدبية وغنائية وتشكيلية ونقدية تتصل بالجذور، وتشتبك معها في النسيـــــــــــــج ذاته، هنـــــــــــــا على هذه الأرض، وإن اختلفت التوجهات والأساليب، والموضوعات.
|