|
|
شاكر الأنباري... هل قلت «بلاد سعيدة»؟ |
|
|
|
|
تاريخ النشر
24/11/2008 06:00 AM
|
|
|
الواقع يتماهى مع الأسطورة واليوتوبيا «تليق» بالخراب العظيم يحاول شاكر الأنباري في روايته الجديدة «بلاد سعيدة» (دار التكوين ـــ دمشق)، أن ينسج يوتوبيا تعادل خراب الواقع العراقي، من خلال وصفه لمجريات الحياة في بلدة عراقية شبه منسية. مكان يختصر ما مرت به بلاده في سنوات ما بعد الاحتلال، من خلال شخصيات عاشت تلك التحولات، أو بالأحرى عاشت كوابيسها المأساوية المتتالية. يعترف الأنباري بأنّه في روايته هذه، لم يتدخّل إلا نادراً في إعادة صياغة الواقع... فالواقع الذي حاولت الرواية الاقتراب منه كان ــــ برغم فجاجته المفرطة ــــ يمتلك أبعاداً أسطورية وخرافية، مثقلة بالعنف واليأس. مثلاً حين يكتشف أناس تلك البلدة وجود مقبرة تحت مياه نهر الفرات، فإنّ ذلك يشبه وصولهم إلى مفترق سريالي، لم يفكروا به من قبل. وكذلك الحال حين يضطرون لرفع الرايات البيض وهم يدفنون موتاهم في مقبرة البلدة، إنّهم يمضون هنا بخطى خائفة بين شواهد القبور في طقس كان روتينياً لكنّه تحول إلى مواجهة حربية وتخلّى عن إنسانيته وقدسيته. لماذا إذاً هي بلاد سعيدة؟ من أين تأتي طيور السعد إلى بلاد كهذه؟ يقول صاحب «الكلمات الساحرات» (1994) و«ليالي الكاكا» (2002) إنّه اعتمد مبدأ المفارقة أو الـ paradox، أي ما يحمل في داخله نقيضه لصياغة العنوان. فبلدة تعيش كل هذه المآسي والأزمات والموت اليومي، بالتأكيد يمثل وصفها بالسعيدة قمة السخرية. في الوقت ذاته يمكن أن توحي لنا جماليات المكان وإنسانية الشخوص وطراز معيشتهم الذي يستند إلى نسق حضاري خفي، بقراءة أخرى تدلنا على بلاد سعيدة حقاً. فالجمال موجود في الحياة اليومية، لكن القبح يكمن في العبث الزلزالي الذي حوّل بلدة الرواية إلى بلدة مسكونة بالخراب. هناك في «بلاد سعيدة» تأرجح مستمر بين الواقع والخيال. فالأحداث منطقية، يدركها القارئ ويكاد يلمسها. أما الخيال، فهو في المناخ الأسطوري الذي يسكن دواخل الكائن البشري، أو يتوالد من خلال الأحداث التي تتلاحق في متوالية من الغرائب والعنف اللامعقول. ثمة حدود للمخيلة الإنسانية، وخصوصاً أمام الموت. ولعل ما يرد في «بلاد سعيدة» هو محاولة للوصول إلى مشارف تلك الحدود. يوضح الأنباري: «لم أقصد «أسطرة» الواقع، بل أردت نقل الأساطير التي دارت في أذهان الناس بشأن الجيوش الأجنبية التي جاءت من أقاصي الأرض، والمسلحين في الداخل أو من جاؤوا من خارج الحدود ليشاركوا في حفلات قتل لا مثيل لها في عبثيتها... وما شاع بشأن هؤلاء القتلة من حكايات وقصص وأوهام، جرى تداولها بعدما صنعت ووظفت من جانب هذا الطرف أو ذاك. مثلاً لقد رسموا هالات أسطورية حول «موت» المسلحين: فالمسك يتصاعد من أجساد قتلاهم، وهم يقاتلون بأسلحة لا مثيل لها، كما أن طيوراً من السماء تقاتل معهم. رصدت الرواية أيضاً الأساطير التي شاعت عن الأميركان، فهم مثلاً يتخلصون من قتلاهم برميهم في مياه الفرات، لذلك امتنع كثيرون عن شرب مياه النهر لإيمانهم بأنها ملوثة بجثث الغزاة. ولا يخفي الأنباري أيضاً أن روايته هي تجربة مأساوية ذاتية مرَّ بها، حين قصف منزل عائلته في الحامضية (البلدة التي تجري فيها أحداث الرواية)، لكنها ليست سيرة ذاتية. فالكاتب هنا شخصية ثانوية، أما بطل الرواية أو الشخص الذي يروي ما جرى، فهو رجل احترق بنار الأحداث. لقد عاش كل التفاصيل وهو يعيد وصفها كما جرت، ولا يحاول فلسفتها. كما أنّه أيضاً يستعيد صور المحيطين به بلا رتوش. ومنهم أحمد الأعرج الذي يكاد يكون ذاكرة حية للبلدة. إنه يسخر من المسلحين ويعتقد أن الخلاص يكمن في التواصل مع المحيط الخارجي... أو لمياء إذ تختلق القصص عن سعيد الذي غاب عن البلدة عشرين سنة ثم عاد إليها. تعيد رواية هذه القصص بشكل مختلف في كل مرة، لتضفي أهمية على الأحداث المتخيلة وأيضاً لتعطي أهمية لنفسها. ويؤكد الأنباري أنّه كان حيادياً في نقله وجهات النظر المختلفة: لقد أراد أن ينقل صورة مختلفة للبلدة في ظل الاحتلال. انهيار مؤسسات الدولة وسقوط الديكتاتورية تسبببا في فوضى «قيمية»، واختلافات شاسعة في وجهات النظر. فكمال الذي قتل ابنه في القصف يتمنى أن يحصل على قاذفة لينتقم من القوات الأميركية، فيما شقيقه علي متحمس لوجودهم لأن وضعه الاقتصادي تحسن بعد الاحتلال. أما محمد الذي يروي الأحداث، فهو حالة وسطى: إنّه أشبه بسجل يلتقط كل القناعات، من دون أن يصل إلى قناعة محددة. وهذا ما ساد في نفوس العراقيين في تلك المرحلة وما زال سائداً حتى الآن. كل ذلك حرّض الأنباري الذي غاب عن بلاده مهاجراً ومنفياً بين عامي 1982 و2003 على إصدار رواية ثانية عن الوضع العراقي، عبر شخصيات يصفها بأنها ذات حساسيات مختلفة، يرصد عبرها طبيعة المكان البغدادي الحاضر، بعد الخراب والدمار اللذين ألحقتهما الحروب المتتالية. في تلك الرواية يعود مغترب بعد عشرين سنة من الغياب ليكتشف التباين الكبير بين الصورة التي كان يحملها عن بغداد مقارنة بالصورة التي يراها أمامه. وهو يرى أنه حقق في «بلاد سعيدة» ما هو مختلف تماماً عما تحقق في رواياته السابقة التي كانت أحداثها تقع بين دمشق وبغداد وكوبنهاغن (حيث يقيم منذ سنوات)، ضمن صيرورة الهجرة العراقية الشاسعة التي بدأت منذ عقود وتصاعدت في الثمانينيات. هذه الرواية كرّست نموذجاً جديداً في أدب الأنباري، إذ تتمحور حول شخصيات لم تهاجر ولم تتأثر باختلالات المكان التي نضحت بها رواياته السابقة. وتتجلى النقلة أيضاً في فهم الكاتب للواقع العراقي، وتوثيقه لمرحلة فاصلة في تاريخ بلاده. من المنفى... وإليه تعود غادر شاكر الأنباري (1957) العراق هارباً عام 1982 بعد إكماله دراسة الهندسة، كان قد نشر بضع قصص قصيرة في مجلة الطليعة الأدبية البغدادية، ولم يحصل إلا على شهرة محدودة داخل بلده. التجأ إلى كردستان العراق أولاً، ثم عاش سنة في إيران، وانتقل إلى دمشق بعد ذلك ليمكث بضع سنين، ثم هاجر إلى الدنمارك، حيث ما زال يقيم. أرسل من هناك مخطوطة روايته الأولى «الكلمات الساحرات» لتنشر في دمشق عام 1994. تلك الرواية استعاد فيها أجواء الإيمان القدري الذي يهيمن على بلدة الحامضية، وهو الفضاء نفسه الذي تدور فيه أحداث «بلاد سعيدة». أما روايته التالية «ألواح» (1995) فاستلهم فيها حادث ضرب الطائرات الأميركية لملجأ العامرية في حرب 1991، وهذا ما يذكرنا بالرواية الأخيرة أيضاً، فكلا البطلين فيهما ينجو من القصف ليسرد تاريخ مدينته في مونولوغ لا يخلو من الهذيان. فيما تمثّل روايته التالية «كتاب ياسمين» (2000) تجربة روحية لرجل يحاول أن يتسامى على الحياة الواقعية، باحثاً عن المعنى في حضارة الشرق. وجاءت روايته «الراقصة» (2003) المكرسة لدمشق أشبه بهدية إلى المدينة التي أحبها أكثر من سواها، وجردة لذكرياته قبل العودة إلى بغداد، تلك «العودة» التي اعتقد أنّها نهائية. لكن بعد ثلاث سنوات مريرة، عاد ثانية إلى المنفى الاسكندنافي ناظراً إلى الوراء بحزن. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ سعد هادي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|