إذا تيقنا بأن من الصعوبة على أي كاتب عراقي أن يتقمص في رواية واحدة، شخصية عراقية، أيا كانت، ويستطيع أن يعبر من خلالها عن تناقضات الإنسان العراقي المتنافرة والمتكاملة في الوقت نفسه والموروثة عبر سنين آلامه ومعاناته الطويلة، فإن الأمر لابد وأن يكون أكثر صعوبة على كاتب أجنبي أن يدخل في غمار الشخصية العراقية وينقل مشاعرها وأفكارها وأحاسيسها، إضافة إلى معاناتها. ومع ذلك فإن الكاتب الفرنسي إيريك إيمانويل شميت (Eric – Emmanuel Scmitt) لم يتردد من خوض هذه التجربة الفريدة في روايته الأخيرة التي أطلق عليها تسمية أليس من بغداد (Ulysse from Bagdad) التي صدرت مؤخرا في باريس عن دار البان ميشيل (AlbinMichel) الفرنسية.
لقد عرف هذا الكاتب الصعوبة التي تقع على عاتقه في تقديم الشخصية العراقية التي لم يصرح كيف سمح لنفسه بأن يعرض أبعادها في روايته، لذلك فقد اختار لروايته تسمية باللغة الإنجليزية هو (Ulysse from Bagdad) وليس باللغة الفرنسية الذي يفترض أن يكون (Ulysse de Bagdad) ولكي يطلق على بطل روايته اسم (سعد) المشتق من كلمة السعادة، والذي يضم مع ذلك في طيات معانيه محتوى الأمل الذي أكد عليه، أي السعد الذي يطمح إليه كل عراقي عرف ويعرف المعنى الكامن لهذه المفردة السحرية التي طالما حلم بها العراقي ولم يعثر عليها إلا نادرا في واقعه المؤلم، وفي أحلامه الطويلة التي طالما جالت خيال الإنسان العراقي ليس في منامه فقط وإنما في يقظته أيضا. على أن كلمة سعد باللغة الإنجليزية (Sad)، تعني أيضا بهذه اللغة التي استعار منها المؤلف عنوان روايته، (الحزن)، الذي يخفي في طياته هو الآخر، آلاما يعرف العراقي معناها بل ومعانيها العميقة. سعد، بطل الرواية هذه، مثله مثل إليس أحد أشهر أبطال ملحمة الإلياذة الإغريقية المشهورة، يضطر إلى مغادرة شمس بغداده الجميلة المشرقة، ليس هربا من شمسها الدافئة والحنونة، وإنما هربا من آلام القهر والحرمان التي مرت على بغداده، آلام نظام جعل من الحياة جحيما يعرف ديمومته كل من عاش فيه وحصار مزق مقومات هذه الحياة نفسها وحروب متواصلة وضعت سعد وعائلته في نفق لا تقل قساوة بدايته عن نهاية غير متوقعة لا له ولا لعائلته. يغادر سعد بغداده مثله مثل بطل ملحمة الإليادة والألم يعتصر قلبه لا لكي يأخذ حصته في حرب طروادة التي خاض إليس غمارها، وإنما لكي يأخذ حصته في حرب البحث عن ملاذ يمنحه حريته المفقودة في بغداده المضطهدة ولكي تنمحه حريته هذه عملا يتيح له العيش الكريم في بلد آخر ويتيح له جمع القليل من المال لعائلته المحاصرة في بغداد الحرمان والحصار والحروب والمعاناة الدائمة. ولكن كيف يغادر سعد بغداده الحزينة وهي مغلقة أمامه، كيف يستطيع اجتياز الحدود وهو لا يملك دينارا واحدا في جيبه؟ إلا أن إرادة المغادرة لا تثني سعد عن تحقيق هدفه، مثله مثل إليس، بطل الإليادة الاسطوري، الذي يواجه عواصف البحار ويخرج حيا من أهوال طيات البحار العنيفة. لقد حاول المؤلف أن يظهر التناقض الموجود في حب الحياة لدى سعد وتصميمه على مواجهة مصاعب الحياة هذه حتى وإن تطلب الأمر مواجهة الموت نفسه خلاصا من الموت البطيء في بغداده المنغمرة في عنف الحصار والحروب. شيئا فشيئا، تبدأ رحلة سعد الطويلة، رحلة اللاعودة إلى أوروبا، الجنة الموعودة، جنة الخلاص من جحيم بغداده الحزينة حيث يواجه خلالها عواصف الآلام في مغامرات عرفها كل من هاجر من جحيم بلدان العالم الثالث نحو الخلاص من نيرانه، مغامرات الخلاص من قسوة الاحداث في أثناء محاولة الخلاص من نيران هذا الجحيم، مغامرات الخلاص من قسوة المعبرين والخلاص من تجار النوم والبشر والمخدرات والسجون المنتشرين هنا وهناك على كامل امتداد مراحل رحلة الخلاص، المنتصبة أمام ملايين المهاجرين، رجالا ونساءا بل وحتى أطفالا وهم يغرقون في طيات البحار ويموتون جوعا وعطشا وبردا في غابات الحضارة الإنسانية التي لا تعرف للرحمة معنى. مغامرة سعد هي بدون أدنى شك مغامرة البحث عن مستقبل آخر، يستغل المؤلف أحداثها لكي يتطرق خلالها وعبر جوانب الحوار الذي يكتنف جوانبها، إلى مواضيع يجعل من تناقضاتها محورا لروايته، مواضيعاً تتجسد في جدلية لأسهل المعادلات وأعقدها في الوقت نفسه بشأن جدوى الحرب، حول الاضطهاد والاستعباد واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وأخيرا حول الهجرة، إلى جنة أوروبا الموعودة. وهي الهجرة التي ما كان لها أن تحدث لولا مسبباتها المتمثلة في عوامل هذه المعادلة، أي الحرب والاضطهاد والاستعباد والاستغلال، عوامل عرفها سعد وتعايش معها قبل الرحيل وفي أثنائه وبعده. وهنا أيضا يظهر المؤلف تناقضات الشخصية العراقية التي تطمح إلى الخلاص، فلا تجد في الخلاص خلاصها، بل تضطرها الأحداث إلى التخبط في متاهات الأمل وفقدان الأمل، أمل الخلاص من جحيم أحداث لم تكن لهذه الشخصية دورا في تسييرها، ويجب عليها مع ذلك التخلص من نتائجها المؤلمة، وفقدان الأمل عندما تكتشف هذه الشخصية أن جنة الخلاص الموعودة لا تحقق لها طموحها الذي طالما أرادت الوصول إلى شيء منه.. ألا تظهر هذه التناقضات تكاملا غريبا في الشخصية الإنسانية التي تخوض صراعا مع نفسها ومع الآخرين منذ أن ترى نور الحياة وإلى أن تفقد نور الحياة نفسها ؟ قد يكون صراع الإنسان الطويل ضد نفسه لكي يصل بها إلى مستوى إنساني حضاري بأبعاد إنسانية ترفض الاضطهاد والاستعباد والاستغلال، وضد بربرية الآخرين الذين غمرتهم طموحاتهم في مخاضات الاضطهاد والاستعباد والاستغلال على امتداد الأزمنة والقرون، في الوقت نفسه، مفتاح الجواب على هذا السؤال. وقد يكون مفتاح الجواب عليه متمثلا في جملة يوجهها المؤلف إلى سعد في روايته متحدثا عن بربرية الإنسان حيال الإنسان الآخر وهو يقول: هنا تبدأ البربرية يا سعد: إنها تبدأ عندما لا يعترف الإنسان بالإنسان الآخر وعندما يرى هذا الإنسان أو ذاك في أناس آخرين، أناسا يقلون عن مستوى الإنسان وعندما يصنف الإنسان، الآخرين وفق درجات تجعل منهم أناسا ينتمون إلى البشر وأناسا ينتمون إلى صنف شبيه به بالشكل فقط ولكن ليس بالحقوق التي لا يتردد الكثير منا من انتزاعها عنهم. سوف تبقى البربرية قائمة، طالما وجد أناس يتمتعون بحقوق، بينما يوجد في الوقت نفسه، معهم وبينهم، أناس لا يتمتعون بها، بل ولا يتمتعون حتى بجزء يسير منها
|