في السابع عشر من تشرين الأول سنة 1969 انتقل الى رحمة الله العلامة الدكتور مصطفى جواد وهو واحد من اعمدة الثقافة الشعبية والتراث الشعبي في العراق. ان قائمة أولية بدراسات مصطفى جواد الخاصة بالثقافة الشعبية تجعلك موقناً بأنك أمام عالم وحجة فيه مازال الدارسون يأخذون منه وينهلون دون اعتراض كثير او تصويب الا ما ندر، فقد كانت دراسة الدكتور جواد عن (الفتوة منذ القرن الأول الهجري حتى القرن الثالث عشر) التي نشرها كمقدمة لتحقيقه كتاب (الفتوة) لابن المعمار البغدادي بصفحاتها الـ94 أساساً لدراسة د. محمد رجب النجار عن الشطار والعيارين وكانت دراسته المشتركة مع د. أحمد سوسة التي صدرت تحت عنوان (دليل خارطة بغداد المفصل في خطط بغداد قديماً وحديثاً) مع الخارطة التي قام بطبعها المجمع العلمي العراقي عام 1958 مصدراً أساسياً لبحوث العدد الخاص من مجلة المورد عن بغداد والعدد الخاص بمجلة التراث الشعبي عن مدينة المنصور الخالدة.
لقد حقق الأستاذ جواد بصبره ودأبه لا مخطط المدينة المدورة كما بناها المنصور بل أماكن الباعة وشوارع المدينة وقبائلها وأماكن سكناهم وأشهر الآثار والربط فيها، وقد بدأ كلف الدكتور جواد بالتراث الشعبي لا باعتباره معماراً شعبياً فقط بل لغة ومثلاً شعبياً وأزياء شعبية ورجلاً وأبحاثاً أساسية في علوم السابقين وبذلك فقد كان مصطفى جواد هادياً لمن جايله وتبعه في العناية بأسس البحث وفي الكشف عن التبر بين التراب وفي أصول البحث الفولكلوري الأصيل وفي محاولة جمع الضائع المنسي من اغراض التراث الشعبي ومحاولة فلسفته. فعلى صعيد اللغة الشعبية كتب الدكتور جواد بحثاً في مجلة لغة العرب في عددها الثامن لعام 1930 تحت عنوان (اللغة العامية العراقية) ذكر فيه أسباب اللحن المألوفة ثم بجرأة نادرة رد الفصيح الى أصله ثم عاد في أيلول 1963 ليكتب لنا بحثه الممتع عن (الشعر العامي العراقي القديم) في العدد الأول من مجلة التراث الشعبي الذي جمع فيه الوان الشعر الشعبي العراقي الذي كان يصر على تسميته بالعامي من مواليا وكان كان وقوماً ودوبيت وزجل متعرضاً الى أسسها، وقد سمى الدوبيت باسمه العربي/ المثناة وكان حذراً في تأويل الدوبيت الى عبودية ثم بوذية إضافة الى محاورته كبار المحققين، ثم جاء اهتمامه بالمثل الشعبي في كتابته مقدمة القصة التمثيلية التي الفها المقدم-آنذاك- عزيز جاسم الحجية وأصدرها عام 1958 تحت عنوان (الما يوني يغركـ) وقد حوت أمثلة شعبية بغدادية متعددة، وقد كانت مقدمة فقيدنا لهذا الكتاب مشيدة بجميع المثل الشعبي ومحاولة تفصيحه. وكان بحث الدكتور جواد المنشور في العدد الثامن من مجلة التراث الشعبي الصادر في نيسان 1964 بعنوان (أزياء العرب الشعبية) لا طريفاً في بابه فحسب بل كان مصدراً أساسياً لدراسات اخرى تابعة منها دراسة د. نجلاء العزي عن (الملابس التقليدية للمرأة في الخليج) ودراسة د. صلاح العبيدي عن (الملابس الإسلامية) ودراسة ناصر حسين العبودي عن (الازياء الشعبية) الرجالية في دولتي الإمارات العربية وعمان) ودراسة ليلى صالح البسام عن (التراث التقليدي لملابس النساء في نجد)، وقد اشار د. جواد الى جهد المستشرق الهولندي دوزي ومعجمه المؤلف بالفرنسية والذي كان لما يترجم بعد، وأضاف له الكثير عن ملابس العراقيين كالهاشمي والبشت، وناقش ابن خلدون في نسبة الازرار الى العرب أم غيرهم ثم تحدث عن ملابس الفتوة حديثاً ممتعاً جامعاً لا محل لتفصيله هنا. وجاءت دراسته عن الفتوة الشعبية في العدد الثالث من السنة الأولى لمجلة التراث الشعبي عام 1963 مميزة لكنها تأتي خلاصة لمقدمته الواسعة لكتاب الفتوة لابن المعمار البغدادي الحنبلي. ويأتي العدد الثاني من مجلة (بغداد والتراث الشعبي) الصادر بين حزيران- تموز/1968 حاوياً دراسته عن (الشعبيات عند الجاحظ) لا ليعزز ريادة أبي عثمان في جمع وتوصيف المأثور الشعبي العربي القديم فقط بل ليعالج مصطلح الفولكلور في الدراسات الإنسانية القديمة وتسمية الاب الكرملي له بعلم القوميات واقتراحه تسمية بالشعبيات مبرراً التسمية او المصطلح بالبساطة والسهولة وصدق الدلالة. وقد اشار جواد في بحثه هذا الى الرواد الأوائل في علم التراث الشعبي مثل ياقوت الحموي في (تخيلات العرب) والخالع الشاعر في كتابه (اراء العرب وأديانها) والمسعودي في مروج الذهب، وتعد دراسته هذه تأسيساً في تعريب مصطلح الفولكلور اقرب الى الدقة من بين المصطلحات المعربة الاخرى واكثر قرباً من المصطلح الذي اتخذته مجلة التراث الشعبي عبر تسميتها هذه.لقد بحث د. مصطفى جواد فضلاً عن تعريب المصطلح والمثل الشعبي والازياء والفتوة والشعر الشعبي واللهجة الشعبية الصيغة التالية من بنود التراث الشعبي وهي بند العمارة الشعبية وأسسها المعمارية والتاريخية وهو البند الذي قربه الى رجل الشارع العراقي الذي اعتز ببحوث جواد واستنتاجاته للمكان التاريخي والشعبي.ومن بحوثه التي نشرها في هذا المجال وقربها بعد ذلك الى المستمع والمشاهد عبر الإذاعتين المسموعة والمرئية بحوثه التي فهرس عشرين نص منها المغفور له د. محسن جمال الدين في مقالته المنشورة في مجلة (التراث الشعبي) العدد 5 لسنة 1970 عن (مصطفى جواد والتراث الشعبي). لقد كان الراحل الكريم أستاذنا د. مصطفى جواد في كل دراساته المكانية والمعمارية من الرواد الأوائل الذين وظفوا التاريخ كعلم في خدمة العمارة الشعبية كجزء من التراث الشعبي وكان في كل دراساته عن الازياء واللغة والشعر الشعبي عالماً حريصاً على ايراد المعلومة ومناقشتها وصولاً الى الحقيقة بعد تحليل مواضعها واستخلاص النتائج وهو منهج أساس في أية دراسة أولية للتراث الشعبي العراقي (وغيره) وقد كان مصطفى جواد رائداً من رواده وعلماً من اعلامه. |