|
|
علي الشوك: وقائع سنوات الجمر |
|
|
|
|
تاريخ النشر
28/10/2008 06:00 AM
|
|
|
يشير علي الشوك في ملاحظة أولى يصدِّر بها روايته «مثلث متساوي الساقين (دار المدى ـ 2008) إلى أنها امتداد لروايته السابقة «عشب أحمر» (2007)، وقد أفاد في كتابتها من أوراق كتبها عام 1980. وهذه الرواية كسابقتها تبدو كأنّها سيرة الشوك نفسه الذي يتّخذ من هشام المقدادي البطل الأساسي في الروايتين قناعاً له. وفي كلتَيهما نجد «بورتريه» لمثقف عراقي من الطبقة الوسطى يحاول تحدي إشكالات الواقع ويجد لنفسه مكاناً خارج هيمنة السلطة. تعود «عشب أحمر» إلى الجذور لتصف لنا سيرة حياة نموذجية لمثقف من جيل الخمسينيات، يساري، درس في بيروت وشيكاغو، ثم عاد إلى بغداد مع زوجة أميركية يسارية أيضاً، وقد سكنته حمّى السياسة كما يقول: منذ اليوم الأول لوصوله، كانت حمى بكل معنى الكلمة، وجد العراق مسيّساً بكل طبقاته وفئاته وأجناسه. هذه الحمى انتهت بكارثة مع استيلاء البعثيين على السلطة في شباط (فبراير) 1963. هكذا، سُجن هشام المقدادي سنتين ثم هاجر بعد إطلاق سراحه لكنّه لم يقرر أن يفارق نهائياً بلده رغم إيمانه بأنّ الوضع كان دائماً في العراق أشبه بمباراة بين خصمين، أرادها أحدهما أن تكون «كسر عظم» فاضطر الطرف الآخر إلى رمي كل أوراقه على الطاولة. عاد المقدادي مرةً أخرى إلى العراق بعد انقلاب تموز 1968. وعلى رغم أنّه لم يسجن هذه المرّة، فإنّه عاش مع الذين خدعتهم الشعارات البرّاقة ووعود التغيير في سجن لا حدود له. هكذا، اعتزل السياسة وأحجم عن المشاركة في أي نشاط يحسب على أي جهة ولكن بلا جدوى. إذ كان هناك مَن يطارده باستمرار ليكون في حزب السلطة. وهو يظلّ يتذكر في هذا الصدد ما قالته امرأة يعرفها: «في العهد الملكي، كانوا يعاقبون الناس لتدخّلهم في السياسة، أما اليوم فيلاحقونهم إذا لم يتدخلوا في السياسة». في «مثلث متساوي الساقين»، يقرّر هشام المقدادي أن يغادر العراق نهائياً بعدما تعذّرت الحياة فيه. لكن عندما أقلعت الطائرة، تملّكه في الحال إحساس بالكآبة. لقد خلّف وراءه كوكبة من الأحبة لا يمكن الاستغناء عنهم، افترق عن أعز مَن يعرف في دنياه، غابوا كلهم عنه دفعة واحدة. فإذا بالذكريات تأخذه ليستحضر وجوه مَن تركهم هناك خلف أسوار الظلام أو داخل وكر الذئاب كما تقول إحدى الشخصيات. وكان قد التقى في المطار أشخاصاً يعرفهم ومن بينهم الناقد علي جواد الطاهر ونساءً أخريات من ماضٍ راحل (كان عصراً ذهبياً للشق الآخر من المجتمع الذي هُمِّش منذ انقلاب شباط 1963). ويتذكّر أيضاً نساءً اعتُقلن وتعرّضن لدرجات متفاوتة من المضايقة والاعتداء. لكن ذلك كلّه يُعدّ نزهة قياساً إلى ما يجري اليوم على حد تعبيره، «لقد ازدادوا سعاراً في وحشيتهم». عندما يصل المقدادي إلى براغ، يلتقي أولاً الكاتب الشعبي كما يصفه «أبو ناصر» الذي لا يمكن أن نخطئ حين نقول إنّه الكاتب الراحل شمران الياسري «أبو كاطع» وقد كان كاتب عمود صحافي شهيراً في العراق. لقد صار على حد تعبير الراوي يمارس حياةً متحضرة جداً على رغم أنّه لم يتخلَّ عن جذوره الفلاحية، وهو يرتدي بدلة أنيقة مع وشاح حريري حول رقبته، ويدخّن أفضل أنواع التبغ الأجنبي الذي يحصل عليه من السوق الحرة عن طريق «منظمة التحرير الفلسطينية» مع المشروبات الروحية المعفاة من الضريبة الجمركية ويتردّد على أفضل المطاعم والأماكن الفاخرة بفضل منحة شهرية يتسلّمها من «منظمة التحرير» بالدولار بقرار مباشر من ياسر عرفات وبمسعى من المسؤول الحزبي، الشيوعي العراقي فوزي سليم! كان اللقاء بين المقدادي وأبو ناصر حميماً، وقد أعرب الأخير عن سعادته القصوى بلقائه، لأنّه يريد أن يمتلئ بحضور مثقف مهمّ يكنّ له كل الاحترام ويريد أن يضع نفسه تحت تصرّفه (ص13). بعد ذلك، يلتقي المقدادي مثقفين عراقيين آخرين ويروي عن بعضهم قصصاً عاشها عن قرب أو سمع بها: عادل ياسين، علي سعيد، خالد أحمد، خليل الخزرجي، فخرية الصفار، عمران عبد الله (أو عامر عبد الله عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي كما يتّضح من التفاصيل التي يذكرها الكاتب عن حياته). يحس المقدادي هناك لأول مرة منذ عام 1963 أنّه يتنفس هواءً آخر في بلد من نظام آخر، هو النظام الذي يحلم به، مع كوكبة من الرفاق والأصدقاء والمعارف اليساريين. وعلى رغم علمه بأنّ الحكومة التشيكية الاشتراكية لا تتمتّع بشعبية بين مواطنيها، فإنّ وجوده في بلد «يوليوس فوتشيك» صاحب كتاب «على أعواد المشانق» ـ الذي ترجمه مع صديقه كمال حمدان قبل ربع قرن ولم يبصر النور لأنّ المسودة صودرت من منزله يوم تعرّضه للتحري ـ جعله يشعر بأنّه بين أهله. ثم يقترح عمران على الكاتب أن يفاتح صديقه المستشرق السوفياتي يفغيني بريماكوف (رئيس الوزراء الروسي فيما بعد) ليعمل في الاتحاد السوفياتي مدرّساً للرياضيات. إلا أنّ المقدادي يرفض. وبدلاً عن ذلك، يطلب من الرفيق عمران كتابة مذكّراته عن «ثورة» الرابع عشر من تموز 1958 بصفته من أكثر الناس اطّلاعاً على أسرارها بحكم صلته بعبد الكريم قاسم قبل الثورة وبعدها. ويشير عمران إلى أنّ لديه بالفعل أسراراً لم تنشر حتى الآن وهو يفكر في كتابة شيء عن الموضوع. بعد ذلك يسافر المقدادي إلى برلين حيث يتعرف إلى ممرضة ألمانية تقع في غرامه، ما يضاعف من عذابه ويشعره بتأنيب الضمير لأنّه مجبر على أن يكذب على حبيبته داليا التي تركها في بغداد وهي شابة لبنانية من عائلة غنية وذات صلات بالسلطة. لكنّه في صفحات أخرى يناقض ذلك حين يشير إلى أنّه يمارس إحساساً بالبهجة لأنه بات موضع اهتمام امرأتين مدلهتين في حبه، فأصبح أكثر ثقة بنفسه وأكثر انفتاحاً على الحياة وحباً للناس ولكل شيء في هذه الدنيا (ص195). وحين يعود إلى براغ، تلحق به أولريكا الألمانية لتقضي معه شهراً كاملاً، ثم يذهب ثانيةً إلى برلين ليراها قبل سفره إلى لندن حيث سيلتقي داليا التي ستصبح زوجته. لا يشهد السياق الروائي بصياغته العامة ولا بتفصيلاته تحولات أساسية تبعد «مثلث متساوي الساقين» كثيراً عن أن تكون إعادة صياغة متعجّلة لوقائع في دفتر يوميات، ركام من الأحداث اليومية يستعيدها الكاتب من أوراقه أو من ذاكرته ليطيل فقط مساحة السرد، يستفيض في شرح تفاصيل عابرة فيما يوجز في تقديم أحداث ذات محتوى درامي مثير قد يؤدي إلى إحداث تحوّل في بنية النص، من ذلك مروره العابر على مشهد مقتل «أبي ناصر». إذ لا يستغرق الأمر سوى صفحة واحدة أو أقل (ص 290). وبما يشبه تقريراً مدرسياً موجزاً كأنّ ذلك الحدث الذي يفترض به أنّه كان من شهوده لا يثير اهتمامه أو كأنه لا يوازي في أهميته أحداثاً أخرى حرص الشوك على أن يعالج مختلف تفاصيلها، فيما كان من الأجدى أن يتّخذ الكاتب من الحدث نقطة أساسية لتطوير رؤيته وللعبور إلى مستوى آخر من السرد.
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ سعد هادي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|