يلاحظ الشاعر والمتابع للنقد الشعري العربي ذمّاً واسع النطاق للآيديولوجيا. هنا تعليق على معنى المفردة وعلى طريقة استخدامها في النقد الشائع. اُثقِلتْ مفردة "الأيديولوجيا" بمعان ثانوية (بالفرنسية connotations) ليست من صلبها، واُستخدمتْ بطريقة هوائية رديفاً للفكرة المجرّدة، وللالتزام الفكري والأخلاقي، والنزعة الإنسانية، والوضوح في الوعي، وكل نزوع سياسيّ مهما كان طفيفاً وعريضاً، وصنواً للأمل بمستقبل للأشياء، وللأدب المعنيّ بمشكلة محدّدة (باستثناء النزعة النسوية!)، والانحناء على اليومي من طرف الشعراء، كما اُسْتخدمَتْ في مواجهة المصطلح، من جهة أخرى، تعبيرات مضادة مثل الليبرالية واللا التزام والصعلكة والتمرّد والعبث وأحياناً الردح الثقافي ضيق الأفق وقليل البصيرة.
لم يقدّم الكثيرون، في نهاية المطاف، تعريفاً للآيديولوجيا، ولم تُشـْرَحْ لنا بالتالي العلة الأصلية في تهافتها. نعود إذنْ إلى مصطلحيْ (الآيديولوجيا) و(الأدلجة) اللذين راجا كشيء يشابه الشتيمة والخطيئة المسيحية الأولى، ونبرهن على أن البعض – وللتبعيض دلالة كبيرة هنا- يستخدمها بطريقة تنقصها التدقيقات الضرورية.
الجذور التاريخية وتطور مفهوم الآيديولوجيا ظهر المصطلح أيديولوجيا في نهاية القرن الثامن عشر، وقد صاغه عام 1796 ديتو دو تراسيDestutt de Tracy للإشارة إلى دراسة الأفكار، خصائصها وأصولها وقوانينها وكذلك علاقاتها بالإشارات التي تعبر عنها. إن الأيديولوجيين Idéologues هم جماعة نشّطها دو تراسي وكانت تتضمن مثقفين مثل كابانيس وفولني وكارا ودونو (Cabanis, Volney, Garat, Daunou) الذين أرادوا إقامة علم للأفكار وتبديد الخرافات والظلامية ضمن مشروع تكميلي لعصر الأنوار. وعلى هدي كونديالاك Condillac ومشروعه العاطفي الذي كان يبحث في أصل الأفكار، فأن الجماعة تلك كانت تسعى لإقامة تحليل علمي للفكر. هكذا اعتبرت الأيديولوجيا بمثابة نسق فكري متماسك مستقل عن الشروط التاريخية. رافق هذا المفهوم القرن التاسع عشر كله بالتوازي مع حضور الفكر العلمي والثورة الصناعية في أوروبا. ما كان يقود خطى أولئك المفكرين هو البحث عن نظام شامل ومتسق يتمحور حول تطبيق العلوم في الظواهر الاجتماعية. كان التنافر حاصلاً بين الأيديولوجيا العلمية والإيمان. ففي القرن التاسع عشر اقترح كارل ماركس التوقف عن اعتبار الأيديولوجيا نظاماً مُحايداً، وقدّم إضاءة نقدية بصدد المفهوم الأصلي للأيديولوجيا: لقد رأى الأيديولوجيا نظاماً للأفكار التي تخدم مصالح الطبقات الاجتماعية. إن العلاقة بين الأيديولوجيا وعلوم الاجتماع المعاصرة لا شك فيها. لذا تُحدَّد الأيديولوجيا على أنها، كما يقول غي روشيه Guy Rocher "نظام من الأفكار والأحكام الصريحة والمنظمة عموماً تُستخدم في وصف وتأويل وتبرير وضعية جماعية أو تجمُّع بشري وهي تستلهم بشكل واسع قيماً وتقترح توجّهاً محدداً للفعل التاريخي لهذه الجماعة أو لذاك التجمع". باحث آخر هو جان باشلير Jean Baechler يقدّم تعريفاً أكثر رهافة واكتمالاً للأيديولوجيا. ففي البدء يرى أن الأيديولوجيا هي جماع التمثيلات العقليةl’ensemble des représentations mentales التي تظهر حالما يرتبط البشر فيما بينهم بأواصر ما بوضعيات معينة. تمثيلات تشكل بعدئذ جماع حالات الوعي المرتبطة بالفعل السياسي، أو بعبارة أخرى بالطريقة الصراعية أو اللا صراعية التي ينظم البشر بها حياتهم. ليست نواة حالات الوعي تلك لفظية لأنها متكونة من دفق شعوري: تتجدد هذه الحالات المثالية في أنماط عدة من السجلات ويمكن الاستدلال عليها عبر تمظهرات موضوعية ومادية تنتجها هي بالضبط. تقع الأيديولوجيا في المحتوي contenuوليس في الحاوي contenant. لا يوجد نوع خطابي genre discursif يمكن أن يُرَسَّم كأيديولوجيا بحد ذاته. وعموما فإن الأيديولوجيا بالنسبة لجان باشلير هي تكوين خطابي (أو استدلالي) إشكالي لا هو بالصحيح ولا بالخاطئ، وسواء كان فاعلا أم خامداً، متسقاً أم غير متسق، متطوراً أم بائداً، اعتيادياً أو مرضياً فبفضله يسعى شغف ما لتحقيق قيمة معينة عبر ممارسة السلطة في نطاق المجتمع. أن التحليل المعرفي قاد إلى أعادة صياغة أكثر تدقيقاً للأيديولوجيا: فلأنها تسمح بجعل العلوم مفهوميةً فإنها تُحلل من جهة حياديتها وبنيتها وأساساتها. الفيلسوف الألماني كريستيان دونكير Christian Duncker شدّد عام 2006 على ضرورة "تفكير نقدي لمفهوم الأيديولوجيا". وهو يعتقد أن هذا المفهوم هو الهم الأول المرتبط بشكل وثيق بنظرية المعرفة والتاريخ. ويعرِّف المصطلح على أنه نظام تمثيليّ يعلن، صراحةً ومداوَرَةً، امتلاك الحقيقة المطلقة. أما المفكرة حنا أرندت Hannah Arendt فتكتب بأن الأيديولوجيا تشارك الظاهرة الشمولية بالجوهر consubstantielle وتقدّم عدة خصائص لا يمكن عزلها عن بعضها. فمن جهة تشكل نسقاً تأويليا نهائيا للعالم معلنة ادعاء المعرفة، الكلية والصريحة، بماضي العالم ومستقبله. ومن جهة أخرى فأن الأيديولوجيا تعلن عن طبيعتها غير القابلة للطعن وغير الممكنة التزوير. أنها غير مصابة بالخلل وأنها متحررة من الواقع. خصيصة أخرى للأيديولوجيا تقع في "منطقيتها logicisme " وقدرتها على الترابط الداخلي الماهر الذي يجمع، على نحو ثابت، المتناقضات في سياق منطقي. وهي تصير من وجهة النظر هذه، حسب أرندت، بالضبط ما تزعمه: منطق الفكرة. تاريخياً دخل المصطلح أيديولوجيا في التفكير الاجتماعي مع الماركسية التي تمنحه على الفور معنى نقدياً: الأيديولوجيا تناقض العلم. لقد تقدمت في البدء كرؤيا للعالم أي بنية عقلية وثقافية تشرح وتبرّر نظاماً اجتماعاً موجوداً انطلاقاً من مبررات طبيعية أو دينية. لكن هذه الرؤيا ليست في الحقيقة سوى حجاب يستهدف تغطية طبيعة المصالح المادية الأنانية وهي تعزز وتمدّد سيطرة الطبقة المفضلة. إن نقد كارل ماركس للأيديولوجيا هو نقد للبؤس الذي تخفيه هذه الأيديولوجيا. بؤس يقع في العلاقات الاجتماعية وآليات السيطرة والاستغلال. طوّر مؤلفون وعلماء اجتماع مثل هابرماس وأرندت والتوسير وثومبسون (Habermas, Hannah Arendt, Althusser, Thompson) مفهوماً نقدياً للأيديولوجيا. التوسير يستخدم مفهوم (الأجهزة الأيديولوجية) للدولة كالمدارس والجيش والجامعات والمعاهد الأكاديمية. أما بحوث ثومبسون فتتعلق بالأيديولوجيا في الثقافة المعاصرة وتنطوي على البعد الثقافي والسياسي للأيديولوجيا في إطار ميديا الاتصالات الجماهيرية التي هي إحدى خصائص العالم المعاصر. هكذا يتبين أن الاستخدام المُلتبس للفكر، وليس الفكر نفسه، هو الذي يقع فحصه وتحليله ونقده، انطلاقا من فكرة ماركس الأصلية عن طبيعة الأيديولوجيا، حتى أن الكثير من النقاد والفاحصين والمنبهين إلى خطورة تطويع الفكر ولوي عنقه، كانوا من كبار الماركسيين مثل التوسير. في الثقافة العربية السائدة، منذ سنوات التسعينيات، نحن أبعد ما نكون عن مفهوم نقدي مثل هذا للأيديولوجيا. إنه يستخدم بخفة متناهية رديفا (لالتزامٍ) فكري وإنساني مهما كانت طبيعته كما ألمحنا. ويُستخدم، بتناقض فادح، ضد الماركسيين بشكل خاص. وليس ضد الليبراليين مع شدة تمسكهم بأفكارهم (أيديولوجيتهم؟). في أوروبا اُستخدمتِ المفردة، عموماً، من طرف مفكّري ما بعد الحداثة في نقد المتشبثين بأفكار عصر الأنوار والمتمسكين بعد بالنزعة الإنسانية للقرن التاسع عشر.
وهم الأيديولوجيا وأوهام النقد عن الأيديولوجيا لنعترف بأننا أقرب إلى تحليلات حنا أرندت القائلة بإن الأيديولوجيا هي عموماً رديف للظاهرة الشمولية وإنها تشكل نسقا تأويلياً نهائياً للعالم وهي تدّعي انطواء العلم كله بين جناحيها وأنها على دراية كلية بماضي العالم ومستقبله (وهذا ما كان ماركس في الحقيقة يقف ضده تماماً). مَنْ مِن الشعراء العرب يمكن أن يزعم امتلاكه نسقاً تأويلياً نهائياً للعالم ومعرفة كاملة بماضي العالم ومستقبله لينطبق عليه قناع الأيديولوجيا البشع؟. لو أننا فتشنا ملياً في الشعر العربي لوجدنا أن أحد أهم رموز الشعر العربي المعاصر هو من زعم دوماً امتلاك هذه الرؤية، هذه الأيديولوجيا، وهو لا يوضع في إطار توصيف "الأيديولوجيا"، لسبب يفوت على النقد العربي، وعليه أن لا يفوتنا. من وُصِّفَ بذاك التوصيف بالأحرى هم الشعراء المهمومون بمشكل إنساني ووجودي ما. أليس من العسف الربط بين شعر مشغول بهَمٍّ محدّد والأيديولوجيا؟. نحن هنا أمام منطق (تلفيقي)، لأنه يُلزِمُ الفعل الإنساني والوجودي والفكريّ إلزاماً الدخولَ في حقل افتراضي: الأيديولوجيا مُسْبَقة الصنع. هكذا استخدم المصطلح في الحقيقة خلال السنوات الأخيرة. تلفيقي أيضاً لأن فعلاً إنسانياً مشدوداً لنسغ فكرٍ ما لم يُنتج بالضرورة شعراً باهتاً مثقلاً بالأيديولوجيا الكريهة هذه. إن الإنشداد إلى نبض الواقع وحركة الأشياء وحتى إلى السياسة بمعناها اليوناني، من جهة أخرى، ليس رديفا للأيديولوجيا. لو أن العالم الخارجي وحده من يتحكم بالمنجزات الجمالية والشعريات، لتوجّب نفي أدباء ومفكرين وشعراء من تاريخ الأدب لأنهم ظهروا في فترات مُلتبسَة، بل منحطة كما قد يُقال، والمتنبي على رأسهم طالما أنه أبدع في فترة "انحطاط سياسي" من النمط الذي يصفه الواصفون، بل عمل في بلاطات الأمراء والحكام وكان له "طموحٌ سياسيّ" لم يفتأ هو لعب أحابيل السياسة من أجله. هذا الدرس التاريخي لن يقنع النقد المحلي لأنه مهموم بأمر آخر، ولأنه يستثمر الفشل الذريع الذي أوصلت إليه السياسة منذ سنوات السبعينيات العالم العربي، بما في ذلك في الحقلين الأدبي والشعري، والمرارة التي تركتها فاعلة في غلاصم المتابعين المحايثين. في مقابل فكرة (شعر- أيديولوجيا) المعتمة، لم تتوقف بعض الأقلام، ولكن مداورة، طوال سنوات الثمانينيات وما تلاها وربما حتى احتلال العراق عام 2003، عن تمجيد فكرة (اللا منتمي) بأشكالها الحداثوية المُرْبكة عربياً (الصعلوك، البوهيمي، العبثي، الانتهازي قليل الضمير.. إلخ). على أن اللا منتمي ليس فضيلة نهائية، ففي مقابلهِ ثمة مبدعون عظام انتموا، عربياً وعالمياً، في فترة من حيواتهم لأحزاب عقائدية. هذا درسٌ آخر لن يقنع النقد الشعري برغم بداهته الأولى، وسيُحاكِم، رغماً عنه، من ارتبط لسبب ما باليسار العربي على وجه التحديد، حتى أن محاكمة اليسار صارت قاعدة لا تناقش طوال الفترة الموصوفة. وصار الجميع يتنكر لماضيه القريب، بدلاً من أن يرى فيه فترة تخصيب ذريّ لذاته الراهنة. بطبيعة الحال لا ندافع هنا عن اليسار ولا عن اليمين، لكننا نذكِّر ألا يمكن قول الشيء نفسه، في النقد العربي المحلي، عن رسام مثل بيكاسو أو شاعر مثل إيلوار المنتمين جهاراً لحزب يساري أوروبي. لن يقنع هذا المثال أبداً بدوره، لأن نقدنا الأدبي مهموم بتوطين التباس كبير. على الضفة الأخرى، ليس (المنتمي) شخصية منطفئة أدبياً وأخلاقياً، وأن (اللا منتمى) ليس بالضرورة كوكباً أخلاقياً وشعرياً دُريّاً، إذا لم يجسِّد مراتٍ، التدهور بعينه في السياقات المحلية المعروفة. ولدينا عربيا أمثلة ساطعة من الشتامين سليطي اللسان بل المشرفين على تصميم ما اسماه صديقنا محمد الحجيري (بالاغتيالات الأدبية) باسم اللا منتمي تحت أشكاله الكثيرة: (الصعلوك، العدمي العابث، الانتهازي ذي الأقنعة، وكاتب الرسائل الإلكترونية الخفاشيّة... إلخ). لن يتوهمن أحد بأننا لن ننحاز، في نهاية المطاف، إلى اللا منتمي المشحون بالجمال والرهافة. وفي نطاق هذا الأخير تبرهن السير الشعرية والذاتية للكثير من شعراء العرب الطالعين سنوات الستينيات والسبعينيات، وهي بالضبط سنوات أوهام الالتزام الماركسي والوجودي، أنهم ينطوون تحت لواء مشابه. يحتاج الأمر إلى وضوح عال: إن اندغام شعراء عرب باليسار (في لبنان مثلاً) يجب أن يُحْسَب لهم وليس ضدهم، على الأقل يتوجب رؤية أنهم أبناء زمانهم بقضه وقضيضه، وأنهم كانوا، في الأقل مرة أخرى، (شهوداً) في حقبة تاريخية على قدر أعمارهم ومراجعهم الاجتماعية والثقافية يومها، وعلى قدر (الأيطيقي) الذي لم يشأ لهم الذهاب إلى ضفة بائسة. ها هنا سؤال آخر بهذه المناسبة: لماذا يوضع اليسار مهما كانت وطأة انحطاطه المزعوم مع الفاشية القومانية والنزعات الدينية في سلة واحدة باسم الإيديولوجيا الغامضة تلك (العراق كمثال ساطع)؟ هل يجيب النقد المحليّ العربيّ على هذا السؤال الجذري؟. لنقل بالوضوح نفسه أن تهمة الأيديولوجيا قد خفتت كثيرا وكادت تنطفئ بعد احتلال العراق عام 2003 مثلاً، لأن صراع الأيديولوجيات قد ظهر، ببساطة، على أشدّه. لا أحد يتحدّث اليوم، بمثل صراحة وشراسة الأمس، في أوساط الشعراء العراقيين، ونحن في عام 2008، عن رذيلة الأيديولوجيا إلا نادراً، لأنها فاعلة عراقياً بأقوى ما يكون. حضورها القوي الراهن في العراق يفصل الأخ عن أخيه، ويشقّ المجتمع العراقي شقاً. لقد ظهر ما كان مطموراً بالعنف وما لم يقع الاتفاق عليه منذ تأسيس الدولة العراقية، واتخذ أشكالاً عدة منها الصراع الأيديولوجي الحاد اللحظة. ليست الأيديولوجية أكذوبة ننفي وجودها عند سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الإشتراكية مثلاً أو عندما نرغب نحن. لكن أين الشعر من ذلك كله؟. لا يتوجب ترحيل المشكلات المخصوصة لمناطق غير صالحة لها مثلما يجرى في (شعر- أيديولوجيا) متناهية الخفة.
|