التحية التي قدمها الزملاء في العدد الماضي من ''الاتحاد الثقافي'' للشاعر حسين عبداللطيف، ونصوصه الشعرية القصيرة التي كان نشرها بمثابة الدعوة بالشفاء، أثارت وسط الأخبار عن مرضه ذكريات شعرية أيضاً عن صديق يتشح بالمودة والدفء الذي تتعاضد مدينته البصرة ونسيج القصيدة على صنعه، كما في أرواح المثقفين البصريين من التواضع والألفة والمحبة التي تفيض في حالة حسين عبداللطيف لتصبغ شعره أيضاً. مواطن آخر من بصرياثا يجسد عالمها اليوتوبي الذي استدعاه ورسّخه محمد خضير سردياً، وعمّقه شعرياً حسين عبداللطيف الذي لم يكن النقد الشعري العراقي المفتون بالتجييل قادراً على ضمّه داخل موجة من بحر الشعرية الصاخب أو رهْنِه بمزاياها، فكان منفرداً يعزّ شعره على المماثلة والتشبيه، ذاهباً لصوره ولغته وإيقاعاته وحدها.
ألْفته نقلت قصيدته إلى عالم خليقي يناظر استدعاءات الرسامين الشبان للكون البدئي البكر قبل أن تمتد يد الإنسان لتشوهه بالديكورية والمظهرية، فتحاذي المخيلة وعياً طفلاً وإحساساً مبرّأً يؤاخي القطرب والهدهد والجَمل، والنارَ والدخان والسماء، النار التي يقول عنها في هايكو مختصر وتوقيع بليغ:
تحتدم غيظاً
لأن لهبها أكثر فتوةً منها
الدخول الحيي والمثير معاً إلى باطن الأشياء وروحها السرية واستبطان وجودها الصامت البعيد هي ميزة حسين عبداللطيف الذي يترجمها حياتياً بوجوده في الذاكرة: إنساناً بسيطاً تألفه سريعاً لتغريك سماته باكتشاف الشاعر داخله، والكائن اللماح شديد الملاحظة.
كنت أرقب الحزن في ذبول عينيه وسحنته السمراء وحدود جسده الذي يعطيه عمراً أكبر، كأنما ليزيد التباسات حقيقته الستينية والحقبة المحتدمة فكرياً وشعرياً، حزن لا تموّهه سخريته التي يواجه بها الضنك والسنوات العجاف التي يقول عنها في نص آخر نشره في نصف التسعينات الأول:
سنوات؟
أم تلك ضرائبْ
لمَطالبِها... ما من حد؟
..هل أملك نفسي الجمعة
لأبعثرها السبت؟
هل أختلق الذكرى
كي أضرب صفحاً عن ذكر الغد؟
يتمدد إحساس حسين عبداللطيف بالزمن ليفيء على الأشياء نفسها ويرى ارتباكات الإنسان ومكائده ومصائده:
كلما وضعوا سمكة
فوق مائدتي
كان في الصحن
ما يشبه الشبكة
لذلك ينعى حياةً كان رأسه فيها (شاشةً أو مصيدة) كما يقول في إحدى قصائده المبكرة، ورضيَ بسبب هذا الألم أن يكون في وضعٍ يلخصه عنوان ديوانه ''على الرصيف أرقب المارة'' مكملاً دورة العزلة التي يلخصها كذلك مواطنه الراحل محمود البريكان بوضع ''حارس الفنار'' المنعزل في الأعلى ولكن المطلّ على التفاصيل كلها. |