|
|
كتاب ناظم رمزي الجديد من الذاكرة |
|
|
|
|
تاريخ النشر
04/10/2008 06:00 AM
|
|
|
يقدم المعمار الدكتور خالد السلطاني كتاب ناظم رمزي مبتدئا بنص رسالة احد تلامذة المؤلف معنونة للسلطاني :" الى استاذي العزيز ابو خالد المحترم، تحية أخوية، وبعد السلام عليكم ايها الاستاذ الكريم الذي علمني ان أعمل كل شئ فيه خير للناس وعلمني ايضاً ماهي قيمة العمل الذي يكون في خدمة قيم الانسان "ذو" المبادئ الخيرة والتى تكون دائما وأبداً هي طموح كل انسان شريف يعمل لأجل ان يرضى ضميره وأن يبقى عمله مسار عمل جيد للأخرين، وأخيرا اتمنى لك ولأم خالد وخالد وعلاوي الصحة والعمر المديد؛ المخلص اخوك مريوش، 5/6/86>. كتب تلك الكلمات يوما ما "مريوش فالح"، احد "تلامذة" ناظم رمزي (1928)، في وثيقة منشورة في كتاب صدر مؤخرا بعنوان " ناظم رمزي: من الذاكرة" عن الدار العربية للعلوم، ناشرون، بيروت –لبنان، 2008. وبهذا فقد عبرّ ذلك العامل البسيط، بكلماته الصادقة المباشرة عن طبيعة واخلاقية صاحب الكتاب الذي نعرض له هنا، واختزل مزاياه الشخصية. والحديث عن "ناظم رمزي" يعني الحديث اولا عن انسان، بكل معاني ودلالات تلك الكلمة، وعن مبدع متعدد الاهتمامات، اقترن اسمه الذي اقتصره في كلمة واحدة واشتهر به "رمزي"، بميلاد اجناس فنية عديدة، كان له قصب السبق في تأسيسها وديمومتها وتطويرها، مثريا الخطاب الثقافي في بلده – العراق. يتضمن الكتاب، (الذي جاء بـ 256 صفحة من القطع الكبير) ثلاث " لقطات" اساسية، هي "لقطة" النص الكتابي، و"لقطة" الوثائق المصورة واخيرا "لقطة" الصور الفوتوغرافية مع نماذج من اعماله التشكيلية. انه كتاب ممّيز بمحتواه وشيق باسلوب اخراجه. وعلينا ابتداءا ان نشيد بجهد الناشر وحرصه على تبني مستوى طباعي عالٍ، فالكتاب، في هذا المعنى يدخل، برأينا، في عداد الاصدارات المميّزة في مجال النشر العربي. يستعيد مؤلف "من الذاكرة" احداثا وشخصيات لعبت دورا رئيسياً في ابداع المنجز الثقافي العراقي في حقب زمنية بدأت قبل نيف ونصف قرن من السنيين، وكان هو نفسه احد تلك الشخصيات المؤثرة الهامة في تحقيق ذلك المنجز، وشاهدا عن قرب على أحداث تلك الحقب، وصديقا للكثير من شخوصها و"ابطالها" . يستعيد ناظم رمزي مرحلة هامة من مراحل مسار الثقافة العراقية، مرحلة ارتبطت بداياتها بالتأسيس، واتسم نتاجها بالتجديد، ما منحها فرادتها، وجعلها استثنائية في أهميتها ضمن المسار التطوري للثقافة العراقية الحديثة. في "لقطة" النص المكتوب، ( ونحن نستخدم آليات التصوير الفوتوغرافي ومصطلحاته، كناية عن اعتراف بان بدء حضور الفوتوغراف الفني في المشهد الثقافي العراقي، تزامن مع بدايات ممارسة ناظم رمزي له)، يسرد المؤلف فيه تاريخ حياته بدءا من طفولته وحتى مغادرته لبلده في نهاية الثمانينات، واسقراره لاحقاً في لندن. وهو "يقص" كل ذلك باسلوب شيق يزيده متعة صراحته المكشوفة وانتقاءه لحوادث مؤثرة مرّ بها اثناء مسيرته الحياتية؛ بعضها كانت احداثأً مرحة عن "مقالب" نصبها لاصدقائه وخلانه، والاخرى حزينة تعرض من خلالها لضروب من المعاناة والقسوة التى لم تكن فقط ظالمة بحقه، وانما غير مبررة اطلاقاً، هو الذي وظف وسائط ابداعاته المتنوعة لتكون وسائل مؤثرة في عملية التنوير التى كرس حياته العملية من اجلها، ومن اجل نشر المعرفة الفنية لدى مواطنيه. لكن في عراق الديكتاتورية وفي ظل نظامه التوتاليتاري البائد، كان كل شئ متوقعاً وحتى عاديا؛ بحيث لا يتوانى الجلاد ذاته، ممثلا بارفع منصب حكومي، ان يفتخر امامه بما فعله جلاوزة الامن وعتاته من قسوة وتعذيب، فقط لايصال "رسالة" ترهيب ووعيد موجهة الى الجميع. " ... بعد فترة صمت قصيرة- يتذكر ناظم رمزي حادثة اعتقاله في 1969 من قبل الاجهزة الامنية البعثية- نادى على احدهم وبدون مقدمات ربط عيني وانهال علي بالضرب، والتهديد والسباب البذئ، والاثنان يرددا، بانهم يعرفا كل شئ، وسوف يقضون على اعدائهم واحدا تلو الاخر!!. وفي طليعتهم الجواسيس.." (ص 46)؛ ثم يواصل الحديث عن تلك الواقعة فيكتب في صفحة (48) ".. ارسلوني الى زنزانه ضيقة، يصعب الوقوف فيها، يشغلها جندي موقوف، جلبوه من القطعات المرسلة الى الاردن. لا يفقه شيئا. كانت راحته ملفوفة بخرقة بالية، وهو يئن من الالم طوال الليل؛ لان احد الذين حققوا معه قد وضع راحة الجندي المسكين، على صوبة علاء الدين وضغط عليها بكعب حذائه وشواها!..". ثم يسرد ماجرى له لاحقا في صفحة (49) " .. بعد ايام من اطلاق سراحي، اتصل بي هاتفياً رئيس الهيئة التحقيقية، واخبرني ان السيد النائب (صدام حسين) يرغب ان يراني، ذهبت الى قصر النهاية، وبعد قليل استدعيت لمقابلته. كان جالساً وممسكا بكتابي( العراق الارض والناس)، الطبعة الاولى. بدأ بالتعليق حول صور الكتاب، ثم بعد سكتة قصيرة عرج على موضوع اعتقالي، وقال انها كانت فرصة ليتعرف عليك الاخوان، قالها باسماً، قلت العفو، سيد النائب، كانت الفرصة لي انا..". كان رده لا يخلو من سخرية، هو الذي ظلّ دوما يرى بان تحمّـل المعاناة وتجاوزها يكمن باضافة شئ من المرح اليها. وهذا المزج بين المرح والمعاناة ساعده كثيرا في تجاوز سلبيات احداث ومصائب عديدة صادفته في مسار حياته سجلها في نصوص كتابه. ويساورني ظن، بان رمزي لم يقصد في سرد تلك الحادثة اياها، لتبيان مظلوميته، التى قاسمها معه كثر من العراقيين، وانما سعى وراء تأكيد معلومة بان القتلة قد يعاودوا فعلتهم مرة آخرى، اذا ظل الجميع مستمرئين الصمت، عازفين عن اعطاء شهادات عن كوارث مرّ بها البلد. ينقسم محتوى "الوثائق المصورة" الى قسمين، قسم خاص بمستنسخات مقتطعة عن صفحات لجرائد ومجلات مطبوعة، تشير الى كتابات تناولت معارض الصور الفوتوغرافية التى اقامها ناظم رمزي، وعن كتابه المصور (العراق: الارض والناس)، بطبعتيه العربية والانكليزيه. انها قصاصات متنوعة يعود بعضها الى الخمسينات، معظمها زاخرة بكلمات طيبة واراء موضوعية عن منجز الفنان، واعماله التصويرية الابداعية. غير إن نصوص بعضها يشير الى مغالطات واخطاء توثيقية وتقييمية. لكن قراءتها في النتيجة ، كما اراها، تشي لنوع من التغاضي وحتى الاهمال الذي واجهته ابداعات رمزي من قبل زملائه واصدقائه الفنانين والكتاب. فرغم حضوره المهم والدائم في المشهد الثقافي، لم يحظ الفنان بدراسة نقدية جادة وشاملة تؤسس لظهور مطبوع مكرس له، يتكفل بكتابته نقاد الفن والمهتمين بمتابعة الحركة الفنية، الذين قسم منهم اصدروا كتباً وانجزوا دراسات عن اشخاص لم تكن قيمة انتاجهم الفني تعادل اثمان الاوراق والاحبار التى كتبت بها تلك الدراسات والكتب!. يتضمن القسم الآخر من تلك الوثائق المصورة، على صور لرسائل عديدة موجهة الى ناظم رمزي، مكتوبة من قبل اصدقائه ومعارفه وتلامذته. انها رسائل تفوح منها رائحة الصداقة المخلصة والاشادات الصادقة باهمية منجز الفنان، والاشارة الى تنوع ابداعاته. ونطالع فيها رسائل كتبها فنانون وادباء ومعماريون وسفراء وغيرهم مرسلة له تحكي عن ذلك كله. كما نقرأ من ضمنها، على سبيل المثال رسائل خالد القصاب العديدة وهي مكتوبة بخط جميل وواضح ، مفعمة بالحس الصادق الذي يكنه المثقف العراقي نحو صاحب تلك الرسائل. ونصوص الرسائل بشكل عام تعكس نوعية القضايا التى تجول في افكار واهتمامات كتابها، وتعبر عن طبيعة النقاشات المثمرة، وعن مواضيع أسئلة مثارة عن واقع الثقافة العراقية وهمومها المستقبلية. انها في الاخير، وثائق مرحلة هامة لمنجز مميز وحقيقي، اثرى الخطاب الثقافي في العراق ، وقدم اضافات عديدة الى المنتج الثقافي العربي عموما. يكاد " الفصل" الاخير من الكتاب، بمادته التصويرية الاساسية، يعبر عن خصوصية الابداع الفني الذي اقترن بمنجز رمزي التشكيلي، وعرفه به الكثيرون. وليس في نيتنا هنا، اجراء تحليل عميق لذلك المنجز او قراءته نقدياً، فهذا مكانه ليس هنا بالطبع. لكن عدم الاشارة نهائيا الى ذلك ، سيكون امراً مجحفاً بكتاب "من الذاكرة" وبمعظم محتوياته التى شغلت "الصور" مادتها الاساسية. يتفق كثر من المتابعين للحركة الفنية بالعراق ، بان الاخيرة اغتنت بجنس ابداعي جديد، عندما نهض ناظم رمزي بفعالية التصوير الفوتوغرافي مرتقيا بها الى مصاف المنتج الفني الخاص المنطوي على سمات تشكيلية ناضجة. قبل ذلك، كانت ممارسة " التصوير" بالعراق تتسم بحرفية ادائية، لم تخلُ احداثها من ظهور لقطات فنية بين فترة واخرى، بيد انها لم تشكل بمجموعها ظاهرة فنية. بمعنى آخر، أومأ ظهور نشاط رمزي التصويري الى بدء تأسيس التصوير الفني المحترف بالعراق، مثلما حدد ذلك الظهور نقطة الانطلاق لمسار هذا الجنس الابداعي، الذي لم ينفك مصورو العراق يضيفون اليه كل حسب اجتهاده. ثمة آهلية عالية تميز أعمال رمزي وتتمظهر في مقدرته على انشاء "معمار" الصورة بتكوين غير تقليدي وتوزيع مقتدر للضوء والظل، يضاف الى ذلك اطلاعه التام على "اسرار" اللقطة التصويرية والتلاعب في تقنياتها. ويعجب المرء من قوة حدس الفنان وحدة بصيرته الرائية للطبيعة "الثانية" للاشياء، المنتجة دوما لذلك الكم الجمالي الآخاذ، والمولدة لمثل هذا التأليف التكويني الممتع!. وعدسته بمقدورها ان تجعل من لقطة الحياة اليومية العادية، منتجاً فنياً رفيعا، يمنح المتلقي فيضاً من الاحساس الجمالي والنشوة المتأتية من ملاقاة نموذج تشكيلي عالي الفنية. واياً تكن ثيمة اللقطة المختارة: جدار في شارع ضيق، ام مفردات معمارية لمبنى قديم، وجوه لنساء ورجال بسطاء منهمكين في اعمالهم البسيطة، لقطات لتلك الوجوه عن قرب، وغيرها من المواضيع العادية، فانها تكتسب عبر موشور عدسته البارعة قيمة جمالية عالية. لا ادري لماذا يحضر "براساي" (1899-1984) Brassaї ، في ذاكرتي، كلما شاهدت صور رمزي. هل مرد ذلك تماثلات السير الذاتية لهما، وتشابه المقاربات الابداعية المنتجة لفوتوغراف مشوب بخصائص محددة ومتماثلة ؟ فكلا الرجلين استقرا في مدن غير مدنهما الاصلية، واستخدما اسماء غير اسمائهما الاولى، وولعا في التصميم الغرافيكي ومارسا الرسم؛ والمهم انهما اشتهرا بصورهم عن "قاع" المدينة ، جاعلين شخوص ذلك القاع موضوعا اثيراً للوحاتهم التصويرية، مثيرين لدينا تعاطف جم مع مصائر تلك الشخصيات المصورة، وحيواتهم "القاعية" المخفية عن الكثيرين. واذ قدم "براساي" رؤيته الخاصة عن حياة ولقطات باريس الليلية في البومه الذي جلب له الشهرة "باريس في الليل" (1933)، فان رمزي استهواه عمل وشخوص عمال وعاملات مصانع بدائية، كانت الخطوط الانتاجية فيها مثقلة بالبؤس والقذارة، لكن شخوصه اكتسبت سمة "ابطال" اللقطة التصويرية، وجوههم في غالبيتها، تنظر الى عدسة المصور، وبالتالي نحونا: نحن المشاهدين لها، متسائلة هل من ثمة رجاء؟ هل من رحمة؟؛ هل من نسمة تغيير تلوح في الافق؟. وهو ما قدمه في صور<عاملة في شركة الجوت، بغداد، 1961> "(ص199)، وفي < نقل المصارين في شركة الجلود، بغداد، 1960> و<عمال ومراقب البلدية >(ص 192)، وفي < دكان تنكجي، كربلاء> (ص 189)، وفي < باعة متجولون، الباب الشرقي، بغداد> ( ص 186). صّور ناظم رمزي اصدقائه المثقفين كثيرا. وباتت لوحاته عن "بورتريهاتهم" اليوم وثائق مهمة، ان لم تكن الوثائق الوحيدة عنهم. كما اجتهد في تصوير نتاج الفنانين العراقيين منذ الخمسينات. وتعد مجموعته التصويرية عن جواد سليم، فنان العراق المجدد، بمثابة السجل الوثائقي الكامل عنه. (وهو بالمناسبة، ما قام به "براساي" ايضا، في تصويره لمنجز بيكاسو). واعتبر اللوحة الشخصية له المشهورة، والمعاد طبعها في الكتاب بصفحة (166) من كنوز الصور الشخصية العراقية، والتى ترتقي بفنيتها الى مصاف روائع التصوير الشخصي في عموم منطقة الشرق الاوسط. كما تشيرالصور العديدة المنشورة في مستهل الكتاب (في الصفحتين 8، 10) والخاصة بالمثقفيين العراقيين، ليس فقط الى احترافية اللقطة وجمالها، وانما الى اهميتها التوثيقية لرجالات الثقافة في مراحل زمنية مختلفة. وسوف اتغاضى متعمدا الحديث عن صور العمارة العراقية، فذاك موضوع لا يمكنني شخصيا الاكتفاء بكلام مقتضب عنه، اذ اراه قاصرا في التعبير عن متعتي وسروري العميقيين وانا اشاهد ما صوره الفنان من نماذج في صفحات 182، 183، 184، 185. لا يمكن ختام مقالة تعريفية بمحتوى هذا الكتاب، مالم نشير الى اهتمامات مؤلفه الغرافيكية والتصميمية، التى جعلت منه احد رواد هذا الفن واحد مؤسسيه الحقيقيين, ثمة مدرسة خاصة بالاخراج والتصميم ابتكرها رمزي وتتلمذ على يديه كثر؛ وهذه المدرسة لها ادواتها الخاصة وتنطوي على سمات محددة، هي التى رفعت من شأن المطبوع الصادر عن "مؤسسة" رمزي الى مستويات فنية رفيعة. وفي التعرّف على نماذج انواع الخطوط المنشورة في صفحتي 234و235، تتوضح قيمة الابتكار فيها، ويتبين مقدار الجهد المبذول في محاولة اجتراح وارساء مدرسة تصميمية عراقية متفردة. لقد كان رمزي مسكوناً بفكرة التنوير، وعن كيفية انتشار الفن جماهيراً؛ وهو ما يفسر اهتمامه الجدي والمستمر على مدى عقود بالمطابع، وخصوصا المطابع ذات الانتاج الفني المرموق. وهو ما فتئ يعتقد بان تأثير المضمون الفكري للمنتج الثقافي يكون اكثر فعالية، عندما يتحول ذلك المضمون الى شكل مميز: رفيع جمالياً ومغاير لما هو سائد. يستقبل ناظم رمزي صدور كتابه الجديد "من الذاكرة"، وهو يكمل الثمانين في هذه السنة (2008) من عمره المديد. وهي مناسبة نراها ملائمة في التذكير باهمية المسيرة الطويلة الحافلة بالانجازات الفنية المميزة، التى حققها وارتبطت باسمه. ولنا قناعة بان المدرسة الفنية المتنوعة الاجناس التى ارساها رمزي ستستمر، وسيواصل اصدقائه وتلاميذه اثرائها وتكريس ملامحها المميزة والمتميزة في الخطاب الثقافي المحلي والاقليمي. وبقى علينا، نحن محبي ومتابعي فنه، وقراء كتابه الشيق، ان نكرر مع "مريوش" تمنياتنا بالعمر المديد والصحة له ولعائلته: ام خالد وخالد وعلاوي، الذين ساندوه كل هذه السنين، وفقا لاقراره في مستهل صفحات الكتاب اياه! |
|
رجوع
|
|
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|