|
|
الرسام والسياسي |
|
|
|
|
تاريخ النشر
24/09/2008 06:00 AM
|
|
|
فكر ( الرسام ) كثيراً بالنقاش الذي دار في صحف المعارضة ومجلاتها حول المثقف والسياسي ، منذ فترة ليست بالقصيرة . ويعترف أنه لم يتوصل آنذاك الى رأيٍ واضح ! فقد كان الفريقان بارعين في تقديم حججهما . وشعر آنذاك مثلما دونوا في كتب الطرائف عن شعور أشعب ، عندما أجلسوه الى صنفين من الطعام ليحكم ما بين مذاقيهما ! وهكذا وجد نفسه محتاراً بين مذاق صنفي الطعام . عكس ما حصل لأحد معارفه من الصحفيين ، فقد سبب له طعم السياسي إمساكاً شديداً كما كتب آنذاك في صحيفة واسعة الانتشار ! تلقى الرسام دعوة للمشاركة في معرض فني يقام بمناسبة أيام الثقافة لبلده في المنفى ، وتقيمه واحدة من الجمعيات المعارضة الخمس في هذه المدينة . ووافق على الاشتراك برغم ما أشيع وسط الجالية من أن القائمين على هذه الفعالية (سرقوا) البرنامج الجاهز بالكامل من جمعية أخرى أرادت ان يكون لها هذا المهرجان بمثابة تقلـيد سـنوي في المنفى وفعالية ثقافية مسجلة لحسابها ! كان البرنامج غنياً : معرض للرسم ، امسية للشعر ، عرض مسرحي ، محاضرة سياسية . بالطبع كُتبت أسماء المشاركين . قرأ الرسام اسم السياسي الذي تمت دعوته من منفى آخر الذي عرفه منذ سنوات الشباب ، برغم ان علاقته به كانت اعتيادية مثلما كانت علاقاته مع (السياسيين الكبار ) طيلة سنوات منفاه. ومع هذا شغل السياسي اهتمام الآخرين به في فترة ما ثم انحسر ذاك الاهتمام ، وعاد في السنوات الثلاث او الاربع الأخيرة ليشغل الاهتمام به من جديد . وعرف الرسام ذلك من خلال ما يكتب عنه في صحف المعارضة المتنوعة الصادرة في المنفى. وتابع مراقباً تلك الوشائج التي شدت السياسيين الى الآخرين الرعية ، وكان يسأل نفسه بلا انقطاع بماذا تميزت تلك العلاقات عموماً ؟ وكان قد فكر ان مظاهر تلك العلاقات صانت البعض من مرارة العيش ، وحاور نفسه فيما اذا يتساوى الجميع في حقوقهم في شروط الوضع الجديد على الأقل . ومنذ وقت طويل كان الرسام يواجه السؤال التالي ، هل تتكافأ الفرص حقاً حتى أمام السياسي نفسه وللآخرين هنا في المنفى؟! ولأن الدنيا علمته النظر الى الامور من زاويتها السلبية . لذا حاول الان عكس وجهة النظر .. وبدأ يؤمن بالقول أن الكأس نصفها ممتلئ ! وبدل محاولته التنقيب عن نقاط الاختلاف فيما بينهما ، حاول اكتشاف الخصال المشتركة إن وجدت . وفكر ان كلاهما يهتم بالفيكوراتيف . وبعد ان مرّ هو نفسه بين أصناف التجريد ومدارس الرسم المختلفة ، استقر على رسم البشر وبقي الآخر أميناً على الاهتمام بشؤون الناس منغمساً بالعمل السياسي ! وكلاهما يعشقان تجريب الالوان وتغييرها ! ويكلفه هذا الشيء مالياً للحصول على عصارات الزيت الغالية الثمن ومفكراً في تغيير حرفته الى الكتابة حيث لا تكلف سوى قلماً وبنداً من الورق الرخيص . إلا ان حبه لحرفته وللالوان أزاح الفكرة من رأسه ! وفي قراءته صحف المعارضة بدا له ان الالوان لعمل السياسي الذي عرفه اعتيادياً ليست غالية الثمن . وسأل نفسه قائلاً هل يمكن انعدام الالوان فيه وهل الالوان بخسة عديمة القيمة بالنسبة اليه ؟ أثناء التظاهرة الثقافية التي جمعتهما معاً ، اكتشف خصلة مشتركة أخرى بينه وبين هذا السياسي هي التعامل بمبدأ المقايضة سلعة مقابل سلعة! انشغل الرسامون في اعداد المعرض بعد ان ثبتوا حاجزاً من حمالات خشبية لتعليق الصور شكلت رواقاً ضيقاً مع جدار قاعة النادي من جهة اليمين ، بغية عزل المعرض المفروض اقامته لفترة ايام المهرجان ، عن القاعة المحشوة بالكراسي التي سوف تشهد فعاليات يومية ثقافية قادمة . واضطر الرسامون ، بعد حوارات صاخبة مع مسؤولي القاعة ، إلغاء صف من كراسيها المصطفة بغية توسيع فسحة المعرض الفني واتاحة الفرصة لزواره ان ينظروا الى الاعمال من مسافة معقولة . وهكذا بدا المكان اعرض نسبياً من عربة لقطار الضواحي . ومثلما توقع ، في تلك اللحظات من التوتر التي اجتاحته عند بداية المهرجان، كان حضور اعضاء النوادي والجمعيات الاخرى قليلاً . وفكر شاعراً بمرارة في حرب الاشاعات بين الجميع ربما هي السبب في ذلك . وبغية التخفيف من شعور الخيبة ومع هذا اعتاد ان يعلم نفسه السخرية من مأزقه ، اذ بدا العدد القليل من الحضور مأزقاً له ، ومع هذا تعلم النظر الى الاشياء من جانبها المشرق . ولم يقلقه الذين حضروا المكان تباعاً وانهمكوا منذ دخولهم في تحية بعضهم البعض وتقبيل احدهم الآخر مضفين جواً من الألفة والمسرة . وبتأثير من هذه الاجواء ، أبعد بعض الافكار التي عكرت مزاجه ، ومهملاً الاسباب في قلة عدد الحضور، وآن له أن يرد على التهاني والتحايا لبعض الكوادر ممثلي النوادي والجمعيات المعارضة الخمس المنتشرة في هذه المدينة . وقال لنفسه ، هاهم قد حضروا ، برغم خلافاتهم ، وربما لغرض توطيد علاقات الجالية على مستوى القمة ! كان يسترق النظر الى وجوه الحضور وهم يتأملون اللوحات المعروضة ، راصداً تعابير وجوههم التي كانت تنم عن الاعجاب . متلقياً تهانيهم كغيره من زملائه الرسامين ، ومجيباً على إستفسارات البعض منهم عن معنى هذه اللوحة له أو تلك ، والغرض من وراء قصده في استخدامه لهذا اللون أو ذاك .. ومثلما يحدث في المناسبات المشابهة في الواقع وفي السينما تخيل نفسه بطلاً في أحــد الافلام ، حيث يقف الرسام وسط لفيــف من المعجبــيـن، يمســك كل منهـم - بدل كأس من النبيذ أو الشمبانيا - ، قدحاً من الشاي أو القهوة بيد ، وبالاخرى قطعة بسكويت بيتي الصُنع . و وقـفـت زوجته قربه تحمل هديتها منه ، باقة زهور تسلمها مثل زملائه الرسامين ، مكافأة على اشتراكهم وإحيائهم المعرض الفني . كانت نظراتها اليه حنونة وربما معجبة وهو يعرف كيف ينظر كل منهما الى الآخر منذ عشرين سنة من زواجهما . وأمام نظراتها المتسائلة من مكانها حيث وقفت ، فهم معناها ، إن كان قد تسنى له بيع إحدى اللوحات ؟ نفى ذلك وتطلع اليها مفكراً أن الفلم ليس هو الواقع ، مردداً بينه وبين نفسه قول شعبي شائع حولّه الى اللغة الفصحى بشماتة ساخرة : من أن الطبيعة قد حرمت الزنابير فرصة تحويل لعابها الى عسل ! ونقل نظراته عن عينيّ زوجته ، ولاحظ انشغال أحدهم على كاميرا فيديو ، مصوراً وجوه الزوار وتجمعاتهم ، متعللاً بضيق المكان - كما أوضح ذلك الى بعض الرسامين - في السماح لنفسه بتصوير اللوحات من موقع المواجهه . ومن مكانه تطلع الرسام الى الحاضرين ، تتحرك حلقات تجمعاتهم وتندمج أطراف بعضها ببعض وتنفرد لتعود فتتجمع حلقات جديدة . ونقل نظراته الى سقف القاعة ثم الى مشاهدي اللوحات وكانوا قلة نادرة ، وفكر أن الوان وحركة الآخرين تبدو مثل حركات أسماك ملونة في حوض زجاجي ممطوط . شعر بمن يمسك به من ذراعه ، فالتفت نحوه ورأى السياسي مبتسما ومنتحياً به جانباً في مواجهة احدى لوحاته وقال السياسي : - ما فعلته في هذا المعرض جيد حقاً . وأشار الى اللوحة حيث وقفا في مواجهتها وقال بحماس : - هذه هي قمة أعمالك ، وأنا معجب بها . . صدقني في كتابي الأخير تحدثت عن شيء ، وكأني أتحدث عن هذه اللوحة بالذات .. و استمع الرسام متابعاً تعبيرات ملامح وجه الآخر موحية بالاندهاش او بالاعجاب ، لايدري ، لكنه عاد ينظر مع السياسي الى لوحته ، ولم تكن بالنسبة اليه سوى لطخات من الالوان الزاهية على خلفية من اللون الاسود . وقال السياسي : - أشبهها مثل سفينة انقاذ وسط هذا البحر المظلم . ثم تراجع الى الخلف قليلاً ، ونظر الى اللوحة مرة أخرى ، وقال : - ذاك هو الشراع بالنسبة لي . مشيراً الى اللطخة الصفراء في وسط اللوحة. وأضاف قائلاً : - نعم .. وهذا هو البحر المجهول ! وتلك هي السفينة ونحن ركابها ... هل تدري أيها العزيز ، انها تكشف عن حالتنا بشكل جلي ! عن المنفى وعن الوطن ! واخذ ينظر الى اللوحة بتمعن فترة طويلة ، وخاطب الرسام قائلاً : - أنتم الفنانون ، انتم المثقفون حان دوركم الآن ... لقد فشـلنا نحن ! ووضع كفه على كتف الآخر وتابع قوله : - أحببت هذه اللوحة ، انها جميلة بحق ، وابارك لك هذا العمل! واتضح للرسام بعد الاطراء الجميل والمؤثر الذي أنصت اليه ، أنه يحب سماع من يقول له شيئاً عن عمله ، وفكر ، ربما قال السياسي ما شعر به حقاً ، ولماذا لا ؟ كل يرى بعينيه ، لكن السفينة تبقى سفينة . كان مفعماً بذاك الخجل والامتنان وسمع نفسه يقول للسياسي : - انها لك . - ماذا ؟ - اللوحة . اقبلها هدية مني . واحتضنه الآخر وسمعه يقول له بلهجة ثقيلة .. اشكرك .. جداً.... جداً .... وبدوري أهدي لك نسخة من آخر كتبي ، هذا الذي ذكرته لك ، اشكرك . عدا كلمات السياسي التي سمعها منه ، انتظر الرسام من سيقول له او لزملائه شيئاً عن فنهم طيلة اربعة ايام المهرجان ، ومع ذلك انتهت كلمات السياسي بامتلاكه لوحة من المعرض لقاء نسخة من كتاب ! وكانت كلمات زوجته في ختام ذاك اليوم ، حادة وخافتة غير راضية عن اهدائه عبثاً كما قالت ، لوحة من لوحاته الى السياسي . لم يحظ المعرض الفني باهتمام الزوار ، بل لم يحظ يوم الشعر ولا يوم العرض المسرحي بالاهتمام . ولاحظ الاهتمام فقط يوم المحاضرة السياسية. كانت القاعة مكتظة ورائحة الهواء فيها وخمة . وقام اشخاص في رفع حمالات الصور دافعين بها الى الحائط المقابل ، ثم نشروا في الفسحة التي خلت صفين من الكراسي جاءوا بها من قاعة اخرى ، في حين تحول المعرض الفني الى لوحات وحمالات للصور مكومة بفوضى . لم يكن الرسام يصغي للسياسي في محاضرته الذي بقي يتحدث بصوت هادئ وعميق ، لكنه سمع عنوان محاضرته بوضوح " انجع الطرق في اسقاط النظام الدكتاتوري " والتفت متطلعاً الى النسيج الكالح لقماش لوحاته تدير ظهرها الى الجمهور . مثبتاً نظراته بحركة فم السياسي متحدثاً الى الجمهور ترافقه حركة خفيفة من ذقنه . وبدا له للمرة الاولى قصيراً ذا وجه أملس وفي عينيه كآبة شخص مصاب بمتاعب هضمية عندما كان ينظر الى الجمهور بين فواصل جمله . واستعاد الرسام حضوره داخل القاعة بعد ان دوى التصفيق للسياسي ، وانتهز اول فرصة للتسلل من القاعة محتفضاً بالكتاب في يده . ( والذي وجده بعد فترة مطروحاً في أغلب المكتبات العربية في المنفى ، وما على المرء سوى ان يدفع خمسة عشر دولار ليحصل على نسخة منه . أما لوحته فقد نسىّ شكلها الان ، وعزاءه ، انها معلقة على أحد الجدران في بيت السياسي .. ولكن من يدري !!؟ ) . وفكر بحياد تام ، انه لم يستطع اكتشاف كل الفروقات بين شخصيتهما . ومع ذلك ، حصل السياسي على لوحة من لوحاته وقال لنفسه ، ربما يبحث كل منا عن سفينة للانقاذ بطريقته الخاصة . 1997
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ خالد بابان
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|