-1 - خمسون سنة مرت على ثورة 14 تموز 1958 ، نصف قرن بالتمام والكمال ، من دون ان انتبه . عندما استوعبت الامر ، وأنا بطيء الاستيعاب ، مضت بضعة ايام اخرى ، وتأشر تاريخ آخر ، غير احتفالي ، اقل من تاريخ ، يوم عادي ، لا يقف فوق كتفي ويذكرني : اليوبيل الذهبي ، الفضي ، ولادة ابني ياسر ، مولد القائد ، المسيرة الكبرى ، احتفالات ، عروض أضواء ومفرقعات، happy new year . إذن بعد أربعة ايام ، وربما خمسة من 14 تموز من عام 2008 ادركت بوضوح انني نسيت (أسقط في يدي كما يقال ) ، وأكثر تحديدا ، بت معتادا على نسيان الحوادث التي استنفدت روحها . ولأني ما زلت اعيش ، ما زلت روحا ، بدت لي هذه الذكرى منضمة الى تحليل شخصي مضمر ، فهي مفصل خاص بي ، زمن هو عمري ، هو مروري ، هو هذا الذي في حلقي الآن ، آلام اسناني وظهري ، فواجعي . ماذا اقول؟ ( أمسكوا يدي لطفا لكي لا تكتب شتيمة ) . لأنه مرّ كل هذا الزمن ، مرّ الوقت ، مرّت الحياة ، ولا شيء غير هذا . من الان أدرك في زاوية مرحة من عقلي ، امكانية ان يقرأ السطور اعلاه سياسيون تقدميون يبتسمون ابتسامات فلسفية ويقررون انني اواصل افراغ الزمن من الحوادث والمعطيات . وأي زمن : فرحة تموز ! وانا اكتب الان اراهم يشطبون نقاط الامل من رصيدي . لا اخشى القول انني احب اغاضتهم ، وجرجرتهم الى الجروح التي اغمضوا عيونهم عنها ، والى الافكار التي أفقروها ، والى الحياة التي أضاعوها . اول مقالة لي نشرت في المدى كانت عن ثورة تموز وقائدها المغدور . كان الحاضر هو الذي يقود المقالة ، وما من مقالة ، خرقاء او تعكس نور الله الا وهي مقالة حاضر . وتلكم هي أوصاف الحاضر باختصار : صدمة الاحتلال وسقوط الدولة وصعود قوى ما قبل الدولة الحاقدة والمنتقمة . في ما عدا هذا ، والأهم ، شعرت اننا درنا دورة فارغة بين احتلالين ، فكل ما بني في عهد الدولة الوطنية هدّ بلمح البصر . ما كتبته آنذاك كان روايتي الخاصة ، وما زلت أواصلها ، فأنا لا أدعي مثل اصحاب المبادئ الكبرى ان الموضوعية تقود أيديهم عند الكتابة ، فأنا من يكتب ، وكيف يا ترى يكتب غيري بيدي إذا لم يركبني التاريخ والاموات من أصحاب المهابة . ما كتبته آنذاك كان رواية دائرية ذات عدد كبير من المماسات ، يكفي أن أشير الى هذا المماس الذي قد يبدو للبعض انه غير مهم : الأجيال التي وحدت السلطة يوم ولادتها في الاول من تموز ! هذا التدخل الجمهوري بولاداتنا لم نتمعن به جيدا بسبب الفرح اول الامر ، كوننا نفخر بأن نولد معا في عهد الحرية الجمهوري ، ثم بسبب الاهمال ، والاحساس بالنكتة والسخف والنسيان في ما بعد . من يقبل بتغيير ولادته الا يقبل بتحديد موته؟ يا ليوم الحشر الوطني الكبير ! يا للصراخ البهيج للموت وفرح التضحيات الكبار! بصرف النظر عن الدوافع العملية والعاطفية التي جعلت النظام يتخذ قراره بتسجيل الملايين في السجل المدني بأنهم ولدوا في يوم واحد ، فقد كان استسلامنا لهذه الحذلقة ، أشبه بتوحيد الرحم الامومي في ترميز تموزي عتيد. ليوحدوا المنقسمين إذن: الهدف عاطفي والاجراء رمزي . لا مشكلة هنا ، لا مشكلة في هذه الشعريات العراقية التي تستولي على الرموز وتبجلها ، ولا مشكلة بنسب الام الرمزي الذي يليق بالشعراء ، ما دام يحوّم حول الحضن العراقي الدافئ ليس الا ويعيد انتاج اساطير العراق داخل الاساطير الشخصية ( يا لسعادة شعراء العراق! ) . المشكلة تكمن بنسب الاب الواقعي الذي كان يولّد وحده حقلا سياسيا ، ويستبدل الآباء بالانقلابات والتهريج وحفلات فض البكارات الرمزي ، فضلا عن انه يتجاوز الحضن العراقي الى حضن الامة العربي . منذ ذلك الحين أظن أنه تأسس الآتي : لم تعد الدلالات الشعرية التموزية في الخصب والولادة والتجدد والرحم حكرا على الشعراء بل تقاسمها معهم القادة السياسيون الذين قدموا انفسهم بوصفهم آباءنا وطالبونا بالطاعة والموت في سبيل وطن مفصل على طولهم وعرضهم . لقد امتص قادة شبه ريفيين في الثقافة والسياسة والسلوك اللغوي الخطابي البلاغة التموزية ، فباتت الثقافة الشعرية العتيدة نفسها بيد السياسة ، أو بيد شعراء مسيسين يسيرون خلف النور السماوي الذي يصفع وجوه القادة ويؤلههم . كانوا بحاجة الى ثورة ، ومن ثم الى عدة ثورات تصحيحية ، لكي يجيّروا الثقافة كلها اليهم والى انسابهم النازلة والصاعدة ، ولتصبح مؤسسة الامومة العراقية ، الارض ، المياه الجوفية ومياه الانهر التي يعشقها الصابئة ، نجوم السماء ونجوم الرموز الجمعية المشعة ، الشمس والقمر ، والسادة كلكامش وانكيدو واور نمو ونبوخذ نصر ملحقين ببطرياركية القادة والزعماء والرؤساء .
- 2 - إن قوة البطرياركية مستمدة من الحقل التاريخي والاجتماعي كله ، وهي قديمة قدم العراق ، بل أن المؤسسة البطرياركية هي المؤسسة الوحيدة التي استمرت في العراق ، وتخفت وراء وجوه عديدة ، لتنفجر بقوة وتهيمن على الحياة السياسية بعد سقوط جميع مؤسسات الضبط الاجتماعي والمدني بعد الاحتلال في نيسان 2003 ، مؤسسة تبتلع الطبقات والاديولوجيات الحديثة وتتكيف لها وتنافسها . هذه المؤسسة تقوّت بغياب اي تحليل سوسيولوجي وسيكولوجي يكشف عن تستراتها خلف الدين والقومية والاشتراكية . والحال إن السياسة التي نظن انها تقدمية لم تستوعب حتى السطوح التي كانت القوى السياسية تتصارع فوقها ، لم تدرك كيف تواصل بنى قديمة وخربة بالمعايير الحديثة استمراراها ، وكيف انها قادرة على ان تلبس اردية مختلفة ، حتى الاردية الماركسية في بعض الشروط . إن من افترض انه يمتلك نظرية للتحليل ، لم يمد التحليل الى نفسه ، بوصفه جزءا من علاقات قوى وليس مرسل العناية النظرية التي توزع على الآخرين الحمقى حصصهم من الاستنتاجات والاوصاف . لم يدرك إنه ازاء معركة سريعة وليس وسط معارك الطبقات التي تطبخ على نار هادئة وتدار بمؤسسات المساومة الاجتماعية . كان التقدمي يحلل حالة وليس خصما من لحم ودم فلا يعود يرى نفسه في ميزان التحليل ، فكان ينتصر على ابنية ذهنية واجتماعية ، وأحيانا على عدو فكرته . كان ينتصر على الورق ، بمراجع اوربا الذكية التي تقف مع العدالة ، بيد انه في كل لحظة كان مسجلا في ميزان قوى كعدو قابل للتصفية . الحسابات تختلف . ينتصر هو على الورق اثناء ما يجري التدريب على اقتناصه ببندقية . كانت الحياة الوطنية منقسمة قسمين لا ثالث لهما ، إما هنا وإما هناك ، وبهذا المعنى ما كان هناك مجال للمناورة . في تلك اللحظة الخطرة ، وفي وقت انعدام الوقت ، حوّل القادة التقدميون حزبهم العتيد الى بطرياركية جديدة للساجدين والعابدين للنظرية والتنظيم ، حزب ملجوم بالآباء من الخارج قبل الداخل ، وضائع بالتحاليل العامة المجردة ، بينما كانت الحياة السياسية الواقعية ومراجعها الاجتماعية ونسبها الأبوي المتخفي وراء الشعارات الحديثة تحد السكاكين . إن التحليل التقدمي للرابع عشر من تموز قبل ان يصبح لتموز عدة تواريخ وينتفخ الرحم التموزي بمواليد مضاجعات العسكريين والفاشيين ، انطلق من تشخيص للنظام السابق الذي تحكمه علاقات شبه اقطاعية شبه بورجوازية مرتبطة سلطته السياسية بالاستعمار . ومن تحديد اهداف مرحلة التحرر الوطني التي من المفروض ان تحققها الثورة كالاصلاح الزراعي والديمقراطية السياسية ، أي كل ما يقدم كبرنامج بورجوازي . هذا التحليل يتكرر حتى هذه الساعة فهو نتاج انظمة الفكر الجاهز ، وعناصره مجردة جدا ، ولقد دخلت في ترسيمته البسيطة آنذاك مواصفات الحالة السياسية العينية ( المؤسسة العسكرية والقادة ) ، والانقسام السياسي الذي لم يعد هناك امكانية ايقافه او رتقه ، مع الاحداث العارضة والخطب والمناسبات والتفاهات التي تطفو على السطح . انها مفردات الجريدة السرية ، الافتتاحيات التي تنبه وتشير ، فيما لا يتغير الكثير ، فالمرحلة هي المرحلة ، والقادة العسكريون سواء كسروا اقدامهم لتجاوزها بسبب ذكائهم المفرط ، أو عبّروا عنها أصدق تعبير ، أو خانوها ، هم مجرد تعابير وأدوار خاصة عنها . وهكذا الحال بالنسبة للجماعات السياسية وتآمراتها ومناشيرها واغتيالاتها ، أي أن الترسيمة الاولى هي الفاعلة ، هي الرابط ما بين الملامح والمناقب الذاتية للقادة وللاحزاب لا طبيعة ظهورهم أو ظهورها على المسرح . الخطب ، الشخصيات ، المراجع ، تراتبية النظام العسكري الواقعي ، علاقات اشخاص معينيين بالمحيطين الاقليمي والدولي .. كل هذا يختفي بالافكار ، فلا يبقى من مشخص يرتدي بزة عسكرية او يضع على رأسه العقال والكوفية . لا احد غير المتآمرين الذين لا وجوه لهم . لقد كان العسكريون حماة النظام الملكي ، فإذا بهم يصبحون ارباب الوطنية والقومية ، وهم الان يعدون انفسهم لكي يصبحوا السادة من دون منازع بتدريبهم السياسي التافه وأمراضهم النفسية واعتيادهم على اصدار الاوامر . إن فكرة ( الزعيم الاوحد) نتاج الصراع السياسي الذي يتمحور حول القادة الذي يباركهم الشعب ويرفعهم الى السماء ويلحس اقدامهم في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل . بيد ان الاوحد سيفضي الى (القائد الضرورة) ، حيث يرتفع المحلل القومي الى تركيبة تاريخية اعلى لها شكل ملحمي : إن التقدمي يحرك خيال الفاشي ويلهمه ! في العالم السياسي العراقي حيث لا تقاليد يدار بها العمل السياسي ، والجماعات السياسية تحارب خصومها دون هوادة ، كان أفق الانشقاق السياسي الوطني الذي بدأ من شعارين سخيفين ( الوحدة والاتحاد الفدرالي ) هو الذي حدد طبيعة المعركة ونهايتها ، وجمع من حوله الناس ، ولاسيما العسكريين والضباط الذي خرجوا من البادية أو من المدن الانتقالية المتعصبة ضيقة الافق التي لم تحصل على اي تعليم جديد . من ميزات هذا الانشقاق انه كان دائما في حالة يعرفها العسكريون باسم (انفتاح المعركة )، أي انه كان في حالة انذار دائم ، جاهزا ومستعدا. وما كانت هناك سياسة لايقافه ، وبالعكس كان يتطور كشرخ غير قابل للرتق بفضل منظومة اقليمية ودولية تغذيه بالاحقاد والدناءات والاموال والاسلحة . في الداخل ما كانت هناك قوى متوسطة تستطيع التوفيق او تبادر هي بالقفز الى السلطة. لا قوى وسطى في العراق ، لا طبقات اجتماعية - اقتصادية تطور مصلحة موضوعية في وطن موحد للجميع ، وتجمع المختلفين في عقود مدنية ملزمة . ازاء ذلك ما كانت هناك خطة تقدمية بديلة غير الابتذالات النظرية واستنتاجاتها الفاقدة للحياة . وعلى الصعيد البنيوي لا دولة في العراق ينظر اليها الناس آلة موضوعية ، فهي تشخصن باسم قائد ما أوحزب ما ، والاسماء أرجح فهي ابسط وتجر خلفها نسلا والقابا يحاطان بالقداسة. كان التحليل السياسي التقدمي الذي فضل الدفاع عن الجمهورية وقائد ثورة تموز في المفاصل الحادة والضيقة قد بات جزءا من حالة الانشقاق الوطني . لا مفر من هذا في شروط ( انفتاح المعركة) . فالتحليل نفسه ينضاف الى اللعبة . لا حل إذن الا بالذهاب الى جهنم . في واحدة من الاطروحات الثلاث عشرة يرى ماركس أن المثالية هي التي طورت (الفاعلية) على عكس المادية التي اهتمت بالموضوع بوصفه معطى للحساسية . ومع اختلاف الامر بين الانظمة الفكرية والفلسفية التي قصدها ماركس وبين السياسة الواقعية في الحياة العراقية الخشنة لأعوام اوائل الستينيات من القرن الماضي ، الا اننا نجد لحظة خلافية مقاربة أعاق فيها التقدميون العراقيون قواهم الكبيرة بخطاطة عقيمة ، في حين وضع القوميون همهم على حل عقدة غوردن بضربة واحدة : السلطة . لقد انتصرت (فاعلية) الدم والاغتصاب على تنويرية التقدميين الشاحبة . لقد انتصرت بطرياركية محلية تتصف بالفضاضة ومستعدة لبيع نفسها الى الاجنبي على بطرياركية سياسية حكمتها أساطير المنهج والنظرية المتقدمتين في الداخل بينما كان الاب السوفييتي الاكبر يمسك بتلابيبها من الخارج ويعيق عليها قراءة الواقع على نحو مستقل وعلى اساس غرائز الناس الحية وتجاربهم . - 3 - بعد العرض الجماهيري المخزي الذي قامت به قوى ما قبل الدولة من سلب ونهب وحرق وتحطيم وقتل بعد الاحتلال الامريكي ، راح جزء من الطبقة الوسطى العراقية يبحث عن تفسير عقلي مقنع لهذه الهمجية ، فلم يجدها عند التقدميين ولا عند الرجعيين بل عند علي الوردي . بيد ان علي الوردي لا يستطيع ان يفسر ما حدث ، فهو غير معني بالهمجية بل بالمجتمع العراقي ، بالاحرى بتاريخ هذا المجتمع . أزاء ذلك علينا الاعتراف بان الاهتمام بعلي الوردي يشكل اليوم استجابة عقلانية لا نعرف مدى قوتها ، فهي قد تتوسع او تتلاشى حسب الظروف ، الا ان استعادته وانقاذه من الاهمال الفاشي والتقدمي له مغزى اكبر من توقعاتنا منه ان يفسر لنا ما حدث للعراق ، ولاسيما انه سكت طويلا خوفا او بسبب الطوق المضروب حوله . إنه وهو الميت المغضوب عليه من قبل وعاظ السلاطين ظل لحظة ليبرالية تأملية قادرة على نزع الاساطير عن المواقف السياسية بردها الى التاريخ او السوسيولوجيا ، وهذا مهم بالطبع الا انه لا يكفي . علينا التحرك ابعد ، بإعانة هذه اللحظة لكي يأخذنا فيها علي الوردي الى التاريخ العراقي الاجتماعي المشروح على طريقته والذي راح يفسر نفسه بنفسه ، لكي نوصله بما نعتقد انها تركيبة اكبر ، لا تكتفي بتحليل القيم بل تعبره الى تحليل البنى ولاسيما السياسية منها . لا بأس بما قاله حتى الان ، فهو يستطيع ان يفاخر بأن التاريخ الخلدوني الدائري الذي آمن به راح يبرهن على نفسه في خراب العمران وتقشر الجلد الحضاري للافراد ونزوعهم الى العنف والاستيلاء على ممتلكات الدولة والاخرين . بيد انني اعتقد ان لا دليل واحد لظواهر الفوضى . المشكلة اعقد من الصيغة الصحراوية العربية في نشوء الممالك وانحطاطها ، وما يحدث في الفوضى ليس مجرد جماعة استنفدت روحها وحلت شيخوختها لتزيحها اياد خشنة لم تتلوث بالترف والدعة . الفوضى ظاهرة مشروحة شرحا وافيا في علم الاجتماع غير الخلدوني ، كما أن ظاهرة انحطاط قوى الضبط الاجتماعي الناتجة عن الحروب والكوارث الطبيعية معروفة في السجل الاجتماعي الدولي ولاسيما انها تتكرر في التاريخ البشري بصرف النظر عن المستوى الحضاري لهذا البلد او ذاك. ارى ان تتكامل افتراضات الوردي القائمة على صراع القيم وتأسيسات التنشئة الاجتماعية بدراسة مؤسسة الضبط الاجتماعي المتمثلة بالدولة العراقية ، ودراسة العشائر والطوائف بوصفها قوى قابلة للاستخدام السياسي في ظروف معينة وليس مجرد جسد تدور في خلاياه صراعات بين قيم البداوة والحضارة . إن تحليل قيم البداوة يجب ان يترابط مع تحليل العشيرة ، ودورها في الانتاج الزراعي والانتاج الاجتماعي للقيم او تحللها تبعا لطبيعة التفاعل في البناء الوطني العام لما ندعوه اليوم بالعراق . هذا التوسع مهم في فحص الترابطات السياسية القائمة بينها وبين الدولة والدين كنظامين مختلفين للضبط الاجتماعي . اثناء ما كان علي الوردي يصوغ فكرة الصراع ما بين البداوة والحضارة ، ما كانت البداوة في العراق تظهر بشكلها الكلاسيكي الا في حدود ضيقة ، وما كانت الحضارة تعني غير الاسم الآخر لقوة جديدة من قوى الضبط الاجتماعي المتمثل في الدولة وعمليات التحديث المرتبطة بها وبمؤسساتها التي تمارس وظائف متعددة منها الربط والضبط والتنسيق الوطني بين المؤسسات الامنية والعسكرية والتعليم والاقتصاد وطرق المواصلات والاتصالات الحديثة والاحصاء وتنظيم التجارة وعلاقات العراق في المحيط الدولي ومركزه فيها وحصوله على الشرعية والاعتراف . إن مأزق الدولة العراقية الوليدة هو انها اخذت على عاتقها مهمات التحديث والبناء المؤسساتي والضبط الاجتماعي كلها في شروط متخلفة جدا ، في شروط لم تبن فيه مؤسسة سياسية للحكم قائمة على الحداثة والديمقراطية . لقد توسع المضمون الاجتماعي التحديثي في اطار سياسي ضيق جدا وغير حديث ، كانت فيه بطرياركية اعيان المدن المهذبة تضعف مقابل صعود البرجوازية الريفية التي تتوسط ما بين الاقطاع والسركال وصاحب الارض الزراعية الصغيرة ، والتي قد تشتمل على موظفي الريف في الصحة والتعليم وفراشي المدارس وحراس الاملاك الحكومية . هذه البرجوازية الريفية التي اخذت فرصة من التعليم تعرف من كل شيء نتفة ، تؤمن بالحداثة الا انها في التطبيق تتلهى بالقشور . تعرف في شؤون الاتيكيت بيد انها تخترقه في لحظات جنونية وتغتاب كل من يستخدمه غيرها . تحب الاناقة الاوربية بيد انها لا تتخلى عن الكوفية والعقال رمز الهيبة والمشيخة في المجالس الاحتفالية ، متدينة وتفرض التدين على الاخرين الا انها تحل نفسها عنه ومستعدة أن تقترف الاهوال ، براغماتية في القضايا التي تفهمها ولها مصلحة بها ومبدئية متعصبة في التفاهات . في الولائم كريمة وبخيلة جدا في اعطاء حقوق الاخرين . متفسخة وتتحدث بالفضائل . تحب قصص واشعار الحكمة ولا تعرف كيف تكون حكيمة . تفعل في بعض الظروف ما فعله اجدادها البدو : نهابون وهابون ! إن الصور المنعكسة والمتناقضة لصراع البداوة والحضارة يجري في هذه الفئات مجرى كاريكاتيريا لا يتحول الى فكاهة عامة بسبب السلطة التي تغطيه وتحميه . هذا واضح في الحالة العراقية ، لكن في بعض بلدان منطقتنا تنجح هذه القوى في امتصاص تقاليد الارستقراطية القديمة التي لها اذرع ريفية وتعيد صياغة بروتوكول لها يحميها من النظر والحسد والتقليد . في كل الاحوال نحن لسنا ازاء صراع قيمي فقط ، بل وتلازم انتاجي بين موقع فئة من الثقافة والسلطة وبين عموم السكان أبضا . والحال يبدو واضحا وجود نمو اقتصادي يتخذ شكل اتجاه حثيث في المنطقة العربية وبعض دول الشرق الاوسط من مثل تركيا وايران تستغل فيه البرجوازية الريفية سكان المدن المزدحمة التي تعصف بها ازمات الطاقة والغذاء والغلاء ، مدن تضعف فيها تركيبة الطبقة الوسطى من حيث الدخل والثقافة ، وتحد البطرياركيات العسكرية والدينية من نضال سكانها المدني في الحصول على الحقوق السياسية والحياة الكريمة . إن هذا الاضعاف للمدينة ، هذا الافقار المتواصل لهيكليتها الثقافية والحضارية والسياسية وكفاياتها المادية والعاطفية ، يقوي الاصولية الدينية والتطرف ويقوض كل مكتسبات الدولة الوطنية ويضعفها . |