في الليل بدأت الأمطار بالهطول ، ناعمة في البداية ، ثم بدأت تشتد تدريجيا ً، وسرعان ما أصبحت ذات قطرات كبيرة ، وفي الصباح تحول المطر الى نثيث متقطع . كانت الأزقة والشوارع أشبه بأنهار من الطين الرائب ، كنت أحاول تحاشي كتل الطين الكبيرة اللزجة ، وأنا أتقافز من بقعة صغيرة ، من بقايا الأسمنت ، الى حجارة مرمية عرضا ًفي الشارع ، وصارت معبرا ًالى الرصيف ومنه الى حجارة أخرى ، أو بقعة من الأسمنت. كنت قاصدا ً( فرن الصمون ) كما أعتدت صباح كل يوم .
حين وصلت رصيف الشارع العام ، كنت أريد العبور الى الضفة الأخرى حيث يقع ( الفرن ) فلم أستطع ، لقد وجدت المياه الموحلة تغمر الجزء الكبير من الرصيف و الشارع . وكان هو هناك ، قامة صغيرة شعثاء مرتبكة .. كان طفلا ًصغيرا ًيحمل مظلة صغيرة حمراء اللون ، بزهور ، صفر وزرق ، سمعته ينادي علي َ، بصوت مرتجف ضعيف ( عمي .. عمي .. ماكو طريق منا ..) انتبهت اليه ، كان يتحرك بعصبية في مكانه ، حائرا ً، لا يدري ما يفعل ، كان يريد العبور الى الضفة الأخرى أيضا ً. قلت له بصوت حاولت أن يكون رقيقا ً حانيا ً. ــ لماذا تريد العبور الى هناك ؟ ــ أريد أشتري صمون لهلي .. إذاً تعال معي نعبر من هناك وأشرت الى مكان بعيد عن مخاضة المياه في الرصيف والشارع .. تبعني بنشاط واندفاع وأحسسته يشاركني مغامرة صغيرة ، قد تنتهي بفشل مضحك .. حين وصلنا المكان الذي أشرت إليه ، كانت المياه أكثر عمقا ًوأوسع مساحة ، وأسقط بيدي ، وشعرت بالخجل وأنا أنظر الى وجهه الصغير خلسة ، كان غاضبا وقلقا ً، رفع إلي وجهه الصغير الحلو ، متسائلا ًبصمت ، وبعيون رامشة! في اللحظة ذاتها وقف أحد الصبيان قريبا ًمنا ، ثم قفز بخفة نحو عارضة حديدية ، كانت مغروسة في الارض وسط المياه ، ومنها قفز الى الشارع بذات الخفة والرشاقة . صحت به ضاحكا ً.. ــ أنت قفزت الى الشارع من هذه العارضة ، ونحن ماذا نفعل الآن ؟ أجابني فورا ً، وهو يمد ذراعه ، بالأتجاه المعاكس: ــ من هناك .. من هناك .. من قرب (النجار) .. هناك بعض الحجارة المرصوفة في مساحة المياه المتجمعة ، يمكن أن توصلكم الى الضفة الثانية .. وفعلا كنا قد عبرنا على الأحجار المرمية اعتباطا ًفي المياه .. وكان هو يرفض أن أساعده على العبور ، كان يتقافز مثل الجدي، من حجارة الى أخرى، وقد سبقني الى الضفة الثانية ، وانتظرني هناك ، وهو يحمل مظلته الحمراء ذات الزهور الصغيرة ، مزهوا . وذهبنا الى (فرن الصمون) ، وتقدمني في الطابور، لأنه كان الأسبق وكان يتغامض بعينيه ويبتسم .. وبعد أن أخذ حاجته من الصمون، وقف على مقربة ينتظرني ، مرة أخرى .. قبلها كنت قد أخذت منه مظلته الصغيرة المبتلة، ووضعتها على حاجز محل الصمون، للتخلص من المياه العالقة بها ، وكنت حين طلبتها منه ، ناولني إياها من الطرف غير المبتل تعبيرا ًعن الاحترام واللياقة، لرجل كبير مثلي!! بعد أن أخذت حاجتي ، أنا أيضا من الصمون ، عدنا سوية الى الموضع نفسه الذي جئنا منه ، وقبل أن نصل الرصيف الآخر ، وقف فجأة في منتصف الشارع العريض ، وأشار بيده الصغيرة الى عمق الشارع الممتد طويلا ً. ــ باوع عمي .. باوع .. هذولاك .. والتفت الى الجهة التي أشار اليها ، وسألت: ــ من هم ؟ قال : الأمريكان .. كانت هناك في البعيد .. في العمق أشباح هياكل سيارات الهمر ، والآليات العسكرية الأمريكية الأخرى ، من مجنزرات ودبابات ذات أشكال غريبة ، وسيارات خاصة .. كانت هياكل غير واضحة ، تشبه حيوانات خرافية ، يغطيها الضباب وكان هو خائفا ًمرتجفا ً، مذعورا ً، .. قلت له :- ــ لماذا تخاف منهم ؟ ــ أخاف ايبوكوني .. الأمريكان!! وضحكت بوجهه ، وأنا أقول : ــ لا تخف الامريكان ما يبوكون الصغار .. يبوكوب الكبار بس . قال : يمكن يبوكوك أنت ؟ ــ قلت : ربما .. وهنا أعترته رعشة قوية سريعة ، وقال بتلعثم وأرتباك . ــ لعد أمش بسرعة.. روح لهلك.. وكان يركض أمامي ، بقامته الصغيرة، على البقع اليابسة من الطين، وهو يقول لي : ــ منا .. منا تعال وراي .. وهكذا حتى أدركنا رأس الزقاق حيث يقع بيته. وقبل أن يدلف الى البيت ، رفع يده الصغيرة لي َمودعا ً. |