... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
اغتيال كامل شيّاع أو خفة انتهاك الوجود

فالح عبد الجبار

تاريخ النشر       06/09/2008 06:00 AM


على رغم ان اخبار القتل والذبح والخطف لا تنقطع، كان اغتيال كامل شياع اكثر من صدمة.
لا استطيع تخيله جثة هذا الكائن الحي والحيي، الذي يمشي على استحياء، ويهمس في استحياء، ويكتب في استحياء. لا استطيع ايضا ان اتخيله في مواجهة القتلة القادمين بسيارتين اعترضتا طريق سيارته في اتوستراد محمد القاسم ببغداد ليشهروا عليه مسدسات بكواتم صوت. لعل هنيهات مرت راوده فيها أمل بأن ثمة اختطافا قد ينتهي بفدية وعودة، تطول او تقصر. لعل املا آخر راوده لجزء من ثانية بان ثمة التباسا او سوء فهم، وان المسلحين المجهولين سينبسون بكلمة، تفصح عن جلية هذا اللبس الملغز، او هذا الابهام الفاتك، او لعله بوغت بمشروع القتل وادرك انها النهاية. هي ثوان معدودات مرت قبل ان تنطفئ اضواء الوعي، ويحل العدم الابدي. لقد حمل كل هذه اللحظات معه. وليس لنا ان نعرف. كل ما يتمناه الصديق المحب ان يكون قد عاش اجزاء الثواني المرعبة تلك بأقل ألم ممكن، وباكبر قدر ممكن من التمنيات المطمئنة.
نعــرف انهـــا أماني فارغة شأن اماني جيلنا وجيل كامل بمجتمع حضاري، حلم المثقفين البائسين من امثالنا  بجمهورية الفضيلة الافلاطونية التي استحالت جمهورية وضوء بدماء الجثث.
«نصحته ان يغادر»، تلك هي العبارة الاولى التي يبادرك بها كل الاصدقاء، من باب الحسرة على الخسارة غالبا، او من باب التحاذق على معرفة الغيب. لكن ما قيمة الكلمات ازاء وجود الكائن؟ هذا ايضا من باب احياء امل كاذب: لو انصت الى توجساتنا! لو انه رحل. ليست هذه هي الآمال الزائفة الوحيدة التي نرعاها نحن الآن، كما رعاها كامل من قبل. اكبر هذه الآمال الكاذبة الاعتقاد بأن الدولة راع للثقافة، والوهم الاكبر الاعتقاد بان الدولة العراقية التوتاليتارية القديمة، والليبرالية الطائفية الجديدة، يمكن ان تقوم بهذا الدور.
فهذه الوزارة أُسندت الى شرطي سابق، ومتعهد سوق خضار، ثم ترأسها طالب فاشل في دروس الفقه، وإمام جامع تحول الى مباءة للجريمة، ثم انتقلت الوزارة الى نكرة اخرى.
قال لي اسلامي باهت ذات مرة: ليتورط السنة بهذه الوزارة! هذا الاسلامي بتأويله الاصولي، لا يريد التورط بوزارة تعنى بمنتجات الحداثة المحرمة: الموسيقى، الرقص، النحت، الرسم، وما شاكل اوراق اعتماد الثقافة في العراق ان تكون على مذهب معين. والشرط الثاني في وزير الثقافة ان يكون قريبا لشخصية متنفذة او قادمة من العصر الحجري، مثل عدنان الدليمي.
يقيناً كان كامل، في هذه البيئة، بمثابة الخروف الاسود: المعرفة وسط وزارة الجهل، والعقل في بازار جنون الركض وراء تقاسم الالقاب والمناصب، والذهب الرنان.
في هذا السباق يربح المتزلفون، ومزورو الشهادات، في هذه الحمى يفوز البارعون في التملق، وبوس اللحى، ومسح الجوخ.
كيف يمكن لمثقف مثله يحمل في ذهنه صبوات الماركسية بزوال السحر عن العالم ان يعيش وسط عالم يستمرئ العيش في السحر. ويعيد توليده بوسائل الحداثة: تلفزيون وانترنت. وكيف يتسنى لمثقف منفتح على منتجات ما بعد الحداثة، فلسفة ونقداً، ان يحتمل العيش مع جهلة ما قبل الحداثة.
لا افهم سر تشبثه بهذا الوهم، وهمنا جميعا. اعلم انه كان ذا طبيعة مطواعة، لينة تكاد تبدو امتثالا، في الدراسة والبحث، كما في السجال والنقاش. واعرف انه كان يرعى الآمال الكبيرة، ويرعى الريبة فيها في آن. من هنا ميله احيانا الى الصمت، والابتسام، والتمتمة المرتبكة. كان يعرف مزالق «السرديات الكبرى»، اي النظريات الحديثة التي تدعي معرفة الماضي السحيق، والآتي الخبيء بيقين مقلق. ما عساه ان يقول عن وهدة «السرديات الكبرى» التقليدية، التي تحتكر بقبضة من حديد تأويل ماضينا، ومستقبلنا، مثلما تحكم بمخالب فولاذية في مصائرنا الراهنة.
ما كانت وزارة الثقافة المزرية لتستحقه. وكان، وهو الحيي، يجمع شغفه في المعرفة، بأمله الصامت في ترك خدش على جلد الجهالة العراقية المستشرية في هذه الدولة الرثة، من رأسها حتى اخمص قدميها، دولة السراق، واللصوص، بلحى او بدونها. واكتشف الهول: هذا الجلد مقدود من جلاميد.
هل انتج كامل يوتوبيا خاصة به؟ ربما. لقد كتب اطروحته في الفلسفة، لدرجة الماجستير، عن اليوتوبيا (بالانكليزية). كان يعرف منشأ اليوتوبيا في العلوم والفلسفات الحديثة بجلاء، وما اتسع له الوقت ليكتب في اليوتوبيا الاصولية القاتلة التي ترعى الاستهانة بالوجود البشري وترفعه الى مصاف فضيلة قصوى.
ثمة تأويلات عدة لدواعي اغتياله، لعلها صحيحة جميعا. لعلهم قتلوه لأنه شوكة ماركسية في وزارة تنتج الخرافة. قتلوه لانه الماركسي المنفتح، المستمع. ولعلهم قتلوه في مجرى التنافس على مقاعد المستشارين، على تفاهة هذا المنصب، وتفاهة الساعين اليه، المتبخترين على ايقاع الالقاب الطنانة تعويضا عن خواء عقولهم وضآلة قيمتهم في الوجود.
المرشحــون لتنفيــذ القتل كثر: بعثيون سابقون، اصوليون من كل شاكلة، ميليشيات حاقدة، مافيات مأجورة، موظفون طامعون؟ من يدري. فالعراق اليوم مزرعة لاستنبات القتلة من كل شاكلة، مثلما هو آلة ضخمة لتمزيق كل ما هو عقلي ونافع.
وكامــل شيــاع لـــم يكمل عملـــه. كــان اقل مثقفي جيله كتابة، لأنه كان اكثرهم قراءة. بل ان انتاجه الثقافي تقلص يوم عاد الى هذا البلد المنكود بالحرب والاحتراب. لعله اراد ان يعيش الثقافة بطوباوية نادرة، ومع ذلك بقينا ننتظر ان ينجز كتابه الأول، او ان يترجم اطروحته في الطوباوية.
قطعت كواتم الصوت الجبانة عليه صبوات القول. سدد القتلة النار الى رأسه، الى موطن التفكير والتخيل، والحلم والامل. لعل الرصاصة الاولى سحقت تلك الحجيرات العامرة بقراءاته في الفلسفة، ولعل الثانية محقت حجيرات الذاكرة الأسرية حيث زوجته البلجيكية وابنه البكر، ولعل الثالثة ازالت مواقع الذاكرة عن الموسيقى ووجوه الاصدقاء. بأي طيش وغباء ازالت تلك الرصاصات القاتلة كل هذا الثراء؟ واليوم، في هذه اللحظة بعد ان مرت عليه ثلاث ليال وهو راقد في العدم الابدي، هناك في الثرى حيث تسود اللامبالاة التامة بجمال الكائن البشري، عقلا وفكرا، لا يجد المرء من الكلمات ما يكفي لوصف هذه الفاجعة. يا لهذه الأمة البائسة التي ترعى حق انتهاك الوجود بهذه الخفة


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فالح عبد الجبار


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni