تشتبك معرفتي بالكاتب والأكاديمي الراحل الدكتور عناد غزوان عبر أواصر عديدة، فهو الصديق الكبير على مدى سنوات من تعارفنا ببغداد التي استقر فيها أستاذا جامعيا بعد إكمال دراسة الأدب العربي في بريطانيا، وهو أستاذي في مرحلة الماجستير، وعضو لجنة مناقشة رسالتي، وزميلي في اتحاد الأدباء العراقيين وهيئاته النقدية، ورفيق سفر في كثير من المؤتمرات والندوات ببغداد والموصل والبصرة وبابل والكوت وخارج العراق أيضا.
ولكن عمله كزائر في جامعة صنعاء أواخر التسعينيات كان الفرصة الأكبر للتعرف على سجاياه الإنسانية والعلمية لفائض وقته وقربه من سكناي، فتعززت صورته التي لم تفارق مخيلتي: جادا، متواضعا، محبا للناس بدفق إنسانيته وبشاشته وتعامله الودود مع كل ما في الحياة من مواقف، فأنت لا تستطيع أن تستعيد صورته إلا بابتسامته المطلة من وجهه المؤطر بنظارته، وبصوته المسبوق بضحكة صافية، وبنبرة فصيحة ذات أثر في النفس. فسرعان ما يشيع عناد غزوان المرح والبهجة في مجلسه، في قاعة الدرس كما في مكتبه بالقسم أو في محاضراته الأدبية ومداخلاته النقدية.
لقد تهيأت له فرصة الدراسة في زمن صعود مدرسة النقد الجديد في أوروبا وبريطانيا تحديدا وتبلور دعوتها القائمة على أولوية النص في الدراسة النقدية وكونه المرجع في الكتابة النقدية التي ظلت في رأي المدرسة أدبا تظهر فيه مهارات الكاتب وذاته وذوقه، وهو ما جعل عناد غزوان يتأثر تأثريا منهجيا كما عبَّر في مناسبات عديدة، ويترجم عدة كتب ودراسات في هذا المجال، فقد اكتسب الراحل العزيز من دراسته لغة صافية مكنته من الترجمة الأمينة المبدعة وبوأته مقدرته فيها ليصبح لسنوات رئيسا لجمعية المترجمين العراقيين، ومتخصصا في الدراسات المقارنة.
ثبت في اعتقاد الدكتور غزوان أن التأثرية الذاتية قد تقود كما يقول في واحد من كتبه الأخيرة، إلى منهجية نقدية إذا تجاوزت تلك التأثرية استبداد الذات وتمردت على قيود الانطباعية الشكلية.
وهذا ما صنعه هو في تحليلاته النصية التي أذكر منها قراءته الذكية والمؤثرة لقصيدة جبران (المواكب) في باب (نص ونقد) الذي اقترحناه في مجلة ''الأقلام''، فقد تجاوز فيها الانطباع الذي يرافق القراءات التأثرية، والإنشائية التي تميز الخطاب الانطباعي، ليغوص في ثنايا نص جبران لغةً وتراكيبَ وإيقاعاً ودلالاتٍ، ويلاحق تقسيم القصيدة إلى أناشيد تجسد الرؤية الفلسفية للشاعر، المختلطة برومانتيكية وجد ظلالها في ثنائيات تحكمت في النص انعكاسا لرؤية جبران وقيام أسلوبه على ما أسماه غزوان جدلية الطباق البلاغي والتكافؤ.. تأكيدا للمنظور الجمالي الذي تبناه في لغة النقد والتحليل الجمالي الذي انصرف إليه طوال مسيرته النقدية والأكاديمية. |