انفجر الصغير حانقا عندما تدخلت الأم مانعة إياه من تناول شيء ما يخص الأب . ولم يفت الأب سماع ما قاله الصغير من احتجاجات، برغم استمراره في القراءة. وجرب أن يرفع نظره عن الكتاب ، ليواجه نظرات صغيره العنيدة المصوبة إليه. وأحس بورطة المواجهة التي لا يمكن أن يحيد عنها . وببراءة مفتعلة سأل الأب ماذا يريد صغيره. - إي .. قال الصغير ذلك ثم صمت، محدقا بأبيه دون أن يطرف له جفن. - ماذا تريد؟ . سأله الأب. - إي .. مو مالك .. شنو يعني كلشي مالك؟ ومط شفتيه وتابع ساخرا وبحنق .. أبو .. أبو .. . كان الصغير يخرج مقاطع كلماته بهدوء ثقيل ومشكوم. وتطلع الأب إلى وجه صغيره ذي الملامح الحلوة الدقيقة والى عينيه اللماعتين والمتطلعتين إليه بتحد ( ها قد شب بسرعة ). قال ذلك لنفسه بجذل. وتابع الصغير قوله : ( أبو .. شنو يعني أبو ! ) .
تظاهر الأب بالجدية وهو يستفسر من صغيره إن كان لا يعرف ما معنى أن يكون المرء أبا . - أعرف. أجابه الصغير بحزم، ثم تغضنت ملامح وجهه الصغير وأعقب قائلا : ( ما أريد اعرف .. كلشي مالك.. كلشي مالك .. هذا .. وهذا .. وهذا .. وهذا ..) وأخذ الصغير يلوح بذراعه، مشيرا بسبابته الدقيقة إلى الكتب والأوراق والأقلام والمنضدة، والى كل شيء تقع عليه عيناه في زاوية المطبخ ، الذي اتخذها أبوه مكانا له، لممارسة بطالته. ثم تابع الصغير قوله حانقا : ( آني همينه أبو ) . ضحك الأب من قول صغيره، وجرب ان يوضح الأمر له مبتسما: ( كلا ليس بعد .. سيحين الوقت لذلك، عندما تكبر وتتزوج ، آنذاك ستكون أبا عندما يصبح لديك أطفال ) . - اعرف .. قال الصغير بحزم .. وتابع محنقا ( لا أريد أطفالا .. لكني أنا الآن أبو .. أنت متفهم شي ! ) . - عيب . رده الأب صارما . - لا مو عيب . قال الصغير . ولم يفهم الأب ما عناه صغيره حقيقة. وجرب، بعد هنيهة صمت، أن يستحثه لمعرفة ما يعنيه بقوله هذا : - طيب .. كيف لك أن تصبح أبا وأنت لم تبلغ الثامنة بعد ! ؟ - لا اعرف. أجابه الصغير بنفس اللهجة القاطعة ثم تابع حانقا - مو أنت تكدر كلشي BESTAMMA .. آني همينه اكدر BESTAMMA . - BESTAMMA يعني يقرر . أوضح الأب ذلك : - أنا أقرر، أنت تقرر، هو يقرر. (درس في اللغة ) . قال الأب ذلك بسره . - اي مو كلشي انت .. - تقرر. ساعده الأب بقوله هذا . - إي .. آني همينه .. - أقرر. ساعده الأب للمرة الثانية . - أعرف . صرخ الصغير محتجا على تدخلات الأب المتكررة في كلماته، ثم صمت مستديرا نحو النافذة وسرح ببصره الى ساحة كرة القدم الخالية من الأولاد المتدربين في مثل هذه الساعة. وأخذ يكرر بخفوت كمن يحدث نفسه ( قرر.. قرر.. ) . ( يا لسرعة الزمن ) قال الأب ذلك لنفسه وفكر بالخمس سنوات الماضية، وتذكر مرحه الصاخب في صالة المطار مع أخيه الأكبر، دون أن يدري ما الذي كان يعانيه أبواه من قلق وخوف عندما تكوموا على ارض هذا البلد في طلب اللجوء . ولم يكن بمستطاعه آنذاك النطق إلا لماما ، وها هو الآن، يطالب بحقه في اتخاذ القرارات . نعم . .. قرارات خاصة . تلك التي لم تكن متاحة له ( هو الأب) في ممارستها منذ وقت مبكر . وأحس هذا الأخير بضرورة إن يداري، وبمعرفة، ذاك التوازن التربوي القلق في أن ينمو هذا الصغير ليصبح راشدا. وآنذاك ستتكفل الحياة هنا بالبقية . وستبدو له آنذاك كلمات مثل ( الأب الضرورة والأب القائد وابو فلان ) شيئا فارغا وسمجا . شيئا لا يمكن إلا الضحك عليه . هكذا فكر الأب وهو يتطلع إلى صغيره بحنو . وغبطه على حياته التي ستكون خالية من الأوهام القديمة .. (بالتأكيد ستكون لها أوهامها الخاصة ، لكنها تختلف عن أوهامي وعالمي ) .. هكذا قال الأب لنفسه ، إنها أوهام من نمط أن لا تعيق هذا المخلوق، في وضع قدمه الصغيرة قياس35، على درب تحرره الخاص كخطوة أولى.
1996 |