|
|
عن شيركو بيكاس: الشعر ذريعة |
|
|
|
|
تاريخ النشر
25/05/2008 06:00 AM
|
|
|
كتب الشاعر الكردي شيركو بيكاس هذه الرسالة: «التحقت بالمؤتمر القومي الكردي منذ تأسيسه وأصبحت عضواً بارزاً فيه وشاركت في كل نشاطاته كشاعر ومثقف مستقل له رسالة مباركة في شأن مسألة وحدة الصف الكردي وحق تقرير المصير والاستقلال، وكان واضحاً لدي أن حزب العمال الكردستاني هو القوة السياسية التي تدعم بالدرجة الأولى كل اعمال المؤتمر، سواء في شكل مباشر أو غير مباشر، مادياً او معنوياً». لم تكن هذه الرسالة واقعة استثنائية في المسلك الحياتي للشاعر. بكلام آخر، لم يكن الهم السياسي والانشغال الحزبي أمرين عارضين. الالتزام الايديولوجي والانتماء إلى جماعة بعينها ما انفكا يؤلفان العالم الذي يتجول الشاعر في دائرته. وهو لا يخفي ذلك أو يتستر عليه. بل إنه لطالما تباهى بكونه ناضل في صفوف جماعة حزبية محددة. ولطالما اعتبر الشاعر هذه الجماعة «موطنه» و «قبيلته» في وجه جماعات أخرى لم يتردد في مناصبتها العداء. وقد تصرف شيركو، في واقع الحال، مثل شاعر «القبيلة» والناطق باسمها: يكرر أقوالها ويستعمل مفرداتها ويوزع شعاراتها ويهجو خصومها ويشتم أعداءها. وهو ظهر، في كل الأحوال، على هيئة الشاعر العربي الذي هتف: أنا من غزية إن غزت غزوت وإن... هذه الأشياء، بحد ذاتها، لا تؤلف مثلبة يؤخذ بها الشاعر. فللشاعر، شأن أي انسي، أن تكون له مشاعر وروابط وانتماء (بما في ذلك للقبيلة)، ولكن شرط ألا تتسرب هذه الأشياء إلى الشعر فتركبه وتأخذ بعنانه. عند ذلك لا يعود الشعر حرّاً في هواجسه. شيركو بيكاس لم يأت الشعر من بابه الفريد بل هو دخله من بوابة الأغراض الخارجية الواسعة. ومنذ اللحظة الكتابية الأولى كان الغرض الدعاوي يركب الكلام ويثقل عليه. يمكن القول، مع الاحتياط في عدم الذهاب بعيداً، ان «الشعر» لم يكن سوى جسر للذهاب إلى السفح الآخر من الجبل. وبين البندقية والقصيدة لا تبقى سوى الخطوات التي يجب قطعها من سفح إلى آخر. تدخل الهواجس البرانية، التي لها أفقها التعبيري المستقل، إلى القصيدة فتأخذها رهينة للحظتها التي لا تدوم اكثر من دوام دخان المعركة. والمفاصل الحياتية المباشرة تلتصق بجسد القصيدة كنتوءات صلبة تسرق رونقها. تكون القصيدة قد صارت فكرة مسبقة ورسالة مباشرة لا تملك هويتها. إنها بالأحرى كلام عادي وقد لبس قناع الشعر. وكان في الإمكان التفوه به من دون الادعاء بالانتماء إلى حضرة الشعر. فلا التعابير ولا الخواطر ولا التآليف الصوتية، لا شيء من هذا يبتعد من الإيقاع العادي الذي نصادفه في كل لحظة. الشعر هنا شطارة. هو أن نركّب الكلام لنقول شيئاً نقوله، عادةً، من دون تكلف: «تغني ابنتي: يا كردستان يا حياتي، فنرفع الرأس، أنا وأمها، سوية ونبكي بصمتٍ من دون أن تدري». مجموعة «مرايا صغيرة» صدرت مترجمة إلى العربية في دمشق عام 1988. وهناك وضع الشاعر جملة من الإنشاءات الصغيرة، الخاطفة، الشبيهة بومضات الهايكو. وكان هذا شيئاً جديداً، وجميلاً، في الفضاء الشعري الكردي. فقد أخلت القصائد الطويلة والمتون المقفلة والإنشاءات المكررة المكان لنقلة مبتكرة تمثلت في لمحات خاطفة، رشيقة، سهلة، مفتوحة للخلق والابتكار. ولكن سرعان ما أرهق شيركو كاهل هذا المولود الجديد وجعل منه، بالتكرار، شيخاً مثقلاً بالأحمال. والتكرار، في أي مكان، يؤدي إلى الترهل والجمود والكسل. ويبدو كما لو أن شيركو بيكاس كان عثر، (بالصدفة؟) على مفتاح أراد أن يفتح به باباً غير مألوف في الشعر الكردي (ولكن إلى أي حد كان هذا غير مألوف حقاً؟ فهذا يحتاج إلى مقاربة أخرى أكثر كرماً). ولكن المفتاح العتيد أصابه الصدأ من كثرة استعماله. وصارت الومضات التي تحدثنا عنها تفقد بريقها وتتحول إلى بقع مظلمة تملأ سطور الكتابة. كأن الشاعر لم يجد عنده جديداً فأعاد كتابة كتابته. كأنه فقد القدرة، أو الرغبة، في الذهاب باتجاه آخر، أو في خوض أفق مغاير. وفي «ساعات من قصب» الصادر عام 1994، تكررت الأفكار والصور والأشكال. لا جديد إلا قليلاً. والجديد القليل لم يكن جديداً بمعنى الفرادة. فالشاعر لم يغادر ساحة التقليد ولم يتراجع عن السير في أعقاب التقليديين. كان شيركو بيكاس جاء الشعر، خارجاً من معطف والده (الشاعر فائق بيكاس) وارثاً هواجسه القومية والاجتماعية وتطلعاته في التدخل في صلب الأشياء لتبديلها. ويمكن القول ان الادعاء بحمل قضية عمومية والسعي في إشهارها كموطن للانتساب كانا، على الدوام، سكتين سارت عليهما أشعاره. وفي الدواوين الكثيرة التي خطّ الشاعرّ سطورها، بقي الانشغال القومي مضموناً ثابتاً من مضامين الكتابة. ولم تستطع النصوص المكتوبة أن تؤسس لنفسها هوية ذاتية تُعرف بها. كأن الشاعر أراد، منذ البداية، أن يعلن التزامه، بالمعنيين السياسي والأدبي. أي أن يكون منتمياً الى دائرة سياسية ومتمسكاً بخط الأدب الملتزم في آن معاً. يهجس بالتواريخ والحوادث والشخصيات. وهو يتخذ من هذه الأغراض عدّة لصنيعه الكتابي. وسواء في خطراته الصغيرة (التي أشير إليها) أو في مطولاته (مضيق الفراشات وغيرها)، فإن القصيدة تتأسس من أفكار وقناعات. الشاعر يقص الحوادث ويستحضر المرويات سعياً وراء موقف. إنه يشرح ويفسر ويندد ويمدح ويشيد. هو ناطق باسم الآخرين، يقول عنهم وينقل منهم ويدوّن لهم رغبته في الإخلاص لوساوسهم (ولكن إلى أي درجة هو صادق في هذا الإخلاص، فهذا شأن آخر). تسقط القصيدة من علياء ذاتها وتنغرس في وحل العموم. هي تفقد صورتها لتلبس قناعاً ثقيلاً. كأن الشاعر يدفع بها دفعاً إلى ساحة هي غير ساحتها. كأنه يريد من الشعر ألا يرتاح لأنانيتها بل أن يتعب لخدمة الآخرين. هو يريد قصيدة خادمة لا قصيدة حرّة. قصيدة تتدلى منها البنادق والشعارات والأفكار والخطب والدعوات والتاريخ والجغرافيا. ومن جراء ذلك تتخبط القصيدة وهي تجرجر أقوالاً تجاوزت حد الرداءة من كثرة الاستعمال: «أنتم أيها الضباط والمراتب/ من ذوي الصدور الملآنة بالأنواط والنياشين/ الملعونة من حرب كردستان والمملوءة بالنجيمات من حرب إيران والكويت/ وعلى ضفاف الأهوار». وديوان «مضيق الفراشات» هو عبارة عن «قصيدة» واحدة طويلة يحشر فيها الشاعر كل شيء كردي: الحكايات والقصص والأبطال والمعارك والأنهار والجبال والمتصوفة والشعراء والمدن والقرى والأنفال وحلبجة وزاخو وإربيل وقاسملو وشرفكندي... الخ. القصيدة هنا ذريعة لقول التاريخي والسياسي. وهي تتضاءل، كقيمة ابداعية، فتضيع شعريتها ويُصاب جسدها بالضمور. إنها ترتطم بالجدران الصلبة للتاريخ والسياسة فتتأرخ وتتسيس. ويخيم السياسي اكثر من أي شيء آخر حتى تصير الكتابة جاريةً في حضوره. والسياسي يفرض ليس فقط فكرته، بل كذلك قاموسه الكلامي وتعابيره ومراميه المباشرة حتى يلوح التعبير الشعري وقد اختنق تحت ركام الفذلكة السياسية الساذجة: ـ عفواً، اسمك، للمستمعين؟ ـ أنا الحرية، وأنت؟ ـ شهيد مراسل على طريقك. مكان الشاعر وزمانه تركا آثارهما فيه من دون شك. إلا أن هذه الآثار لم تحتل الذاكرة والذهن فقط، بل هي صادرت المخيلة والذائقة أيضاً. وغطى الراهني على ما عداه. فكل شيء يحضر عبر خلل قراءة راهنية هي أسيرة اسقاطاتها وايحاءاتها. فكأن الشاعر يعدم مرجعية أخرى غير مرجعية الراهن في مباشرتها ووقوفها على سطح الأشياء. ولا يصعب على القارئ، إن دقق في الأشياء قليلاً، أن يلاحظ انحصار الكتابة التي يدوّنها شيركو في نطاق المشاغل التي دأبت في ركوب النفوس ركوباً ملحّاً في جغرافية العراق على وجه الحصر تقريباً. والخطاب القومي، الكردي، الصارخ بحضوره إنما هو قرين الخطاب القومي، العربي، الذي دأب يخيّم بكلكله على الأنفاس جميعاً. ولا يستطيع شيركو أن يخلق عالماً موازياً لذلك الخطاب بل يقع صريعه. وهو لا يملك بين يديه ما يساعده على النهوض في وجهه ومقاومة ضرباته. بل إن ذلك الخطاب، العربي، يتغلغل إلى نصه ويملأه بأغراضه. فاللفظة الشعبوية والرموز القومية والعبارات الفضفاضة هي مقامات حاضرة أبداً. وهي تؤلف الطعام الذي تتغذى منه الكتابة وتنهض بها على الأقدام. حتى يمكن القول انه لولاها لربما ما كانت قامت قيامة الكتابة. وقصيدة هذا شأنها تقعد قعوداً هيناً في ردهة ما هو توثيقي. فالكلمات لا تتجاوز مدلولاتها. والرموز تقف على تخوم المألوف. والمهارات اللغوية تدور حول حلقات عادية تكررت حتى الاجترار. وفي وسط كل ذلك تتكاتف أسماء العلم والأماكن إلى حد الازدحام. لنلاحظ هذه «القصيدة» القصيرة: «ليكن ماء دجلة مضطرباً ومتعباً/ كرسائل «السيّاب»/و «الشناشيل» المنتظرة/ وجيوب «حسين مردان»/ وطاقية «الجواهري»/ لكن سيبقى لديه ما يكفي/ لبصاق يجمعه في فمه/ ويخرج برأسه الموحل كل يوم/ من خصر «الكرخ» المجروح كان/ أم «الرصافة» كي يرفع عينيه/ ويلفظه بوجه شاعر شرطي/سيبقى لدى ماء دجلة/ لذلك... ما يكفيه»!! وليست هذه القصيدة حالاً استثنائياً. إنها، في الواقع، عينة من نسيج كتابي كامل. وهذا النسيج هو اللباس الذي لا تستطيع أن تمشي قصائد شيركو بيكاس من دونه. كأنها تشعر بنفسها عاريةً. والعريُّ معيب في أخلاقها. أكثر من ذلك، فإن لعبة التماهي في مرآة الآخر، العربي، تلبث حاضرةً حتى تصير جزءاً أصيلاً، وربما مؤسساً، للنص. وأنّى مدّ الكاتب نظره، أو يده، اصطدم بذخيرة تؤهله للمضي في خوض «تجربته» الكلامية. إنه كمن ينظر في المرآة ليرى نفسه متدرباً على النطق الذي تفوه به الآخرون من قبله. هو، في الواقع، ابن الجبل والمدينة معاً. ابن الهمّ القومي الكردي والهم الوطني العراقي. وينشأ من هذا المزيج قولٌ قريب من الخطابة والتهليل. والحق أن الأشعار التي يكتبها شيركو تظهر امتداداً لما يقوله أو يطرحه الآخرون في الساح. والآخرون زعماء وساسة وقادة أحزاب وشعراء أحزاب. ولهذا، ربما، لا يبدو مستغرباً أن تتشابه قصيدة شيركو، شاعر الهم القومي الكردي، مع قصيدة سامي مهدي، شاعر الهم البعثي للنظر، عرضاً، إلى هاتين القصيدتين: سامي مهدي: «رسم الطفل بيتاً. وأنشأ للبيت مدخنةً. كانت تنقصها حزمة من دخان. فأطلق منه دخاناً. توقف ثانية وتأمل. لا بد من شجرة وسياج. قالت طفلة: واسع وجميل هو البيت لولا السياج». شيركو بيكاس: «أربعة أطفال: عربي وفارسي وتركي وكردي، رسموا رجلاً. رسم العربي رأسه ورسم الفارسي يديه ورسم التركي رجليه، اما الكردي فعلّق بندقية على كتفه. مرايا صغيرة». ولا يكاد يفلت من الشاعر حدث أو موقف من دون أن يجترح قصيدة للمناسبة. وفي مقدور المرء أن يعدّ أرشيفاً للحوادث الكردية المتعاقبة من مراجعة هذه القصائد. وحيث تتبدل الوقائع والجهات السياسية تتبدل قناعات الشاعر وأفكاره و... أشعاره. وهو كان هبّ يوزع القصائد ذات اليمين وذات الشمال في تمجيد زعيم شعبوي كردي ومدح خصاله «البطولية» ولكنه عاد فأمطر الزعيم بقصائد حانقة تندد به وبخصاله «الجبانة». وفي المقابل دبج قصائد تشتم زعيماً كردياً آخر وصفه بـ «ادريس البدليسي» الذي كان تعاون مع العثمانيين في السيطرة على كردستان في أزمنة ماضية وذلك في لعبة إسقاط حدثي مكشوف. فالقصيدة، هنا وهناك، مطية يركبها الشاعر وصولاً الى مآرب متأرجحة لا علاقة لها بالشعر والفن والإبداع. إنه ليس شاعر ذاته القلقة بل هو شاعر الجماعة الراسخة.
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ نزار آغري
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|