|
|
الشاعر شوقي عبدالأمير : " يوم في بغداد " |
|
|
|
|
تاريخ النشر
11/04/2008 06:00 AM
|
|
|
شكل يوم التاسع من نيسان (ابريل) 2003، تاريخ سقوط بغداد تحت الاحتلال الأميركي، لحظة حاسمة في تاريخ العراق منذ نشوئه ككيان سياسي، أو بالأحرى مثَّل تاريخاً لولادة أخرى لعلها تسفر عن عراق آخر لا عن كيان آخر! هذا في الجانب العام لتاريخ البلاد، ناهيك عن سياق مجمل تاريخ المنطقة. أما في شأن التحول الداخلي للثقافة العراقية، فيمكن القول أن أي يوم من الأيام اللاحقة للتاسع من نيسان، قد يحمل تواريخ إضافية للحظات حاسمة في حياة الثقافة العراقية يمكن معها تقصي تداعياتها النوعية على طبيعة أدب المنفى العراقي تحديداً. من هنا يمكن رصد مناخ كتابي محدد بدأ يشيّد نماذجه في أدب المنفى، وبدا أن هذا الأدب الذي استمر ما يربو على ثلاثة عقود خائضاً في الأسئلة ذاتها وفي «أحلام العودة» وتهويل أمكنة الماضي يتجه نحو إعادة تعريف نفسه ما بعد نيسان 2003، بعد اتصال محبط مع «الوطن» وبحوار ناقص مع راهن تلك الأمكنة القديمة. ففيما بدأ الأدباء العراقيون يعودون إلى بلدهم، سرعان ما وجدوا أنفسهم يعاودون البحث عن مضيق جديد للفرار ثانية، وكأنهم أضاعوا الوطن مرة واحدة وإلى الأبد، ومن هنا فإنَّ أساليب الكتابة لدى عدد من الشعراء بدأت تتجه نحو صياغات أخرى، وأشكال وموضوعات مضافة في التجربة. كتاب «يوم في بغداد» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2008) للشاعر شوقي عبد الأمير يندرج في هذا السياق، وكان الشاعر أصدر قبل عامين مجموعته الشعرية «مقاطع مطوقة» وضمنه في بنيته الإنشادية خطاب العودة الفجيعة إلى الوطن بعد عقود من النفيَّ: «ليس نهاراً/ فانوس المقابر الذي يضيء الزمان/ لا المكان/ فوق أرض العراق». أو: «بغداد يعلوها شبح الموت/ وتستر عورتها الأكفان. إلا أنَّ «الخيبة الكلكامشية» في نهاية رحلة العودة لا يمكنها بأي حال أن تكون «القصيدة» الأخيرة، وهي أكبر من أن يستوعبها شكل فنِّي محدَّد على ما يبدو، فتحول علاجها من مجرد ترجيح بين خيارات فنية وأشكال وتعبيرات أدبية، إلى أسئلة ثقافية عميقة، ومن ثم إلى قضية وجودية. ومن هنا يستنفر شوقي عبد الأمير فضاء السرد باستدعاء عناصر عالم جمعي شتاته روح الإقامة القديمة، وتجربة الأسفار اللاحقة، ممزوجة بنار الذكريات الشخصية في أمكنة عدة، ليضعها في أتون لحظة مدوية وكأنها الأبد على أرض أقدم الحضارات. وليست عبارة 19 /10/ 2007 على غلاف الكتاب سوى توثيق افتراضي فني لهذا اليوم (هل كلمة فنّ هنا كناية عن مناسبة لوصف ما يجرى في بغداد حقاً؟) فهو يوم له ما قبله وما بعده في حياة الزمن، بينما الأيام الشخصية للكاتب تجرى عميقاً في تاريخه الشخصي عبر نهر طويل ومتصل من رحلة الطوفان إلى فكرة الخلود. يوم افتراضي تتداخل فيه ملامح «بغدادات» عدة من العباسية إلى حرائق المغول، وتتفاعل خلف طبقات من الخراب والقيامة. خطَّط جيمس جويس خريطة لتدفق تيار وعيه في «عوليس» واختزل تاريخ الزمن بـ 24 ساعة، وحدد العالم بمدينة دبلن، ليبحر عبر العصور و «يوم في بغداد» يستجيب هذه التقنية تماماً، ومثلما وضع جويس أهالي دبلن في زحام يوم واحد مع أساطير الإغريق وعوالم هوميروس ورحلة يوليسيس، يجعل شوقي عبد الأمير من يومه المفترض زمناً متصلاً مع ملحمة كلكامش ورحلات السندباد وعوالم بغداد العباسية وقشلة الأتراك ومقابر الإنكليز وصلب الحلاج ونصب الحرية. ومن اللافت أن يكون هذا اليوم يوم الجمعة، عطلة - افتراضية - كذلك، فيما أرقام الضحايا في عراق «العطلة» يرتفع منسوبها في «الجمعات» وحيث الصلوات الجماعية، وتجمعات الأسواق، وضجيج كراجات السفريات الخارجية، أهداف حيوية للتفجيرات التي تحصد عشرات الأرواح ليبدو جحيم العالم كله يعمل في «يوم عطلة» العراق. ومن ناحية الأسلوب يحيل «اليوم » إلى فنَّ اليوميات أكثر من فن السيرة، فهو يومٌ ليس ككلِّ الأيام، أو هو احتدامُ الأيَّام في دورة زمان قياسية محدَّدة، تتصادم فيها أيام الدكتاتورية مع أيام الاحتلال، وصباحات المنفى مع فجر العودة، ساعات الإحباط بأوقات الأحلام، وخلاصته: قوافل أحداث كابوسية تمتدُّ من الليل إلى الليل. لكن ليل بغداد ليس ضاجَّاً بالحياة إلى هذا الحدَّ اللهمَّ إلا إذا اقتنعنا بالعبارة التي يستهل بها الكتاب مقارناً بين ليلة مغادرته بيروت وليلة وصوله بغداد، حيث يلتبس مشهد صوت الرصاص الكثيف ونيران الانفجارات الليلية، مع احتفالات الألعاب النارية في بيروت، فيما تسبق أصوات التفجيرات مع الفجر، صوت منبه الهاتف معلنة فجر يوم جديد! وبينما يبدأ «يوم بغداد» من الليل لينتهي بالليل، كناية عن معادل زمني لحال المدينة الغارقة في الظلام، ولمصائر سكانها التي تنوس بين حدود الظلام أمس واليوم وغداً، فإن الإهداء إلى (فتحية مجيد : أمي) يثير نوعاً من التعلل بأبدية الطفولة عبر فكرة خلود الأمِّ في الوجدان بديلاً من العاصمة المفقودة في الراهن. ولعلَّ من مزايا اليوميات أنها أحد مصادر الشهادات الأدبية على مرحلة ما، ومع ما تنطوي عليه من نزعة ذاتية ذات نبرة انفعالية في الكتابة، إلا أنها عادة ما ترتبط - أكثر من الشعر مثلاً - بالنزوع نحو كتابة تاريخ ما. و «يوم في بغداد» هو وعاء زمني يختزل الحضور المكثف للتَّاريخ بأشكاله المختلفة، ذلك أن يوميات الحرب لا تشبه يوميات السلام ولا أيَّام المنفى. من هنا يقترب كتاب شوقي عبد الأمير من تلك النصوص التي تقرأ المكان بتغيراته وليس بوصفه، بتحولاته لا بثباته، بل بانهدامه لا برسوخه! ومن هنا أيضاً لا نجده يتحرك في هذا الكتاب، بطريق مستقيم بين شارع السعدون وشارع الرشيد، أو بين ساحة الميدان وساحة الطيران، ولا بين شارع النهر وشارع أبي نؤاس، أو بين صوبي الكرخ والرصافة، حركته داخل النص حركة اندياح وتمدُّد دائري يشابه إلى حد بعيد جغرافيا العاصمة المدورة، ويضارع الزمن المتداخل والمتدفق مثل نهرين يقتربان ولا يلتقيان عند خاصرة بغداد. يتحرك في ثبات تمثال الرصافي، واختفاء تمثال السعدون بنسخته الأصلية وعودته بأخرى مقلدة، وفي اختلاط أفق النخيل بالتماثيل والنصب، بين المكتبات والمقاهي، من مقام الحلاج أو ضريحه المفترض إلى مرقد موسى الكاظم، وبين الأعظمية والكاظمية، وامتزاج المقابر بالمستشفيات، إذ تتحول «مدينة الطب» أهمّ معقل صحي في الشرق قبل عقود إلى مشرحة كبيرة لعلها الأكبر في العالم حالياً. نصٌ متشظِّي المساحات بقدر تماسك بنائه، يقرأ المكان بعين المرثيات. مرثيات خراب المدن التي هي جزء كلاسيكي في تاريخ الأدب الرافديني، بيد أن الخراب الحالي هو «خراب عصري» على الأقل من خلال تعبيراته في المشهد: المولدات الكهربائية بصوتها ودخان عوادمها، الكراسي المتحركة في بلد المعاقين، الجدران الكونكريتية التي ترسم جغرافيا العزل، الجسور فوق نهر دجلة الجاف... مرثية تتعدَّى غرضها التقليدي لتخرج إلى الهجاء، هجاء متعدِّد الجهات لكلِّ من ساهم في إيجاد هذا العالم السفلي الذي حل بديلاً غير مناسب لأحلام الخلود! وعلى رغم أن شوقي حاول إلى حدِّ معقول تقديم شهادة ثقافية «اعتزالية» متوازنة عن «حال البلاد» إلا أنه وقع أحياناً تحت طائلة بعض عبارات «الفتنة» وفي تضمين القناعات السياسة الصادمة لسياق الخراب. ولو بقي الكتاب في حدود المشاهدات واحتفظ بلغته الأدبية الرفيعة، لنجا مما لحق به من غبار أهل السياسة. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ محمد مظلوم
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|