هكذا تخيل بورخيس الفردوس: ممرات مكتبة كبيرة تطوف يداه بعد الموت بين رفوفها كما كان يفعل في حياته، حتى بعد أن ضاع ضوء عينيه في متاهات مكتبة بوينس ايرس التي عمل أميناً لها، وراح يتعرف إلى مواقع كتبها باللمس بعد عماه. فتغدو مكتبة أحلام عمياء وطويلة.
أما الحياة فهي كتاب.. كتاب يختصره كاتبه بخطة جهنمية كما يقول بورخيس (القمر: كتاب الصانع ـ ترجمة سعيد الغانمي) ولعله هو نفسه ذلك الرجل الذي يحاول في خاتمة الكتاب رسم خريطة للعالم، لكنه قبل موته بقليل يكتشف أن خطوط تلك المتاهة الطويلة لم تكن إلا صورة وجهه. ذلك أنه ـ بحسب بورخيس نفسه في إحدى قصائده ـ (ما من أحد يستطيع أن يكتب كتابا/ إذ قبل أن يوجد كتاب بحق/ يحتاج إلى شروق الشمس وغروبها/ إلى عصور وأسلحة وبحر من الوصل والقطع).
أنفق بورخيس طفولته في قراءة كتب مكتبة والده، ومن ضمنها ما هو محظور على الأطفال، وعندما يكبر سيسجل أنه بمرور السنين أدرك أنه لم يغادر تلك المكتبة أبداً وأنه يواصل قراءة كتبها.
لقد امتدت الرؤيا الكتابية للعالم وما بعده إلى ممارسة كتابية، كل استيهامات نصوص بورخيس وأحلامه وأفكاره لا تجد ملموسيتها إلا في الكتب، هكذا رضي بدور السارد، يقص على قرائه ما كان قد قرأه، مغيراً مفهوم التأليف ومهمة المؤلف. فالنص هو ما ترويه حتى لو قيل بلسان سواك، واكتفى أحياناً بنقل النصوص، وهكذا يتمدد الكتاب بهيئة خرافية كما تصور قصته (كتاب الرمل) فهذه النسخة من الكتاب المقدس نادرة لأن صفحات الكتاب كالرمل لا نهاية لها ولا بداية، وعندما يحاول المشتري ـ الراوي ـ أن يقلب الكتاب لا يعثر على صفحات متسلسلة بل هي لا متناهية كالزمن نفسه، مع إمكان وجودنا عند أي نقطة فيه. وحين أراد التخلص من الكتاب بإحراقه (خشي أن يخنق الكوكب بدخان لا ينتهي).
كان الحل السردي الممكن هو أن يدس الكتاب في زحمة الكتب حيث تحفظ الخرائط والموسوعات والدوريات.
يتعدى الكتاب إذن وجوده الورقي، ويصبح تمدده الفيزيائي ترميزاً لنفوذه في الحياة، لذلك قد يكتفي الكتاب أحياناً بنفسه من دون سلطة مؤلفه، هذا ما يحصل كمفارقة تاريخية في شأن واحد من أعظم ما أنتجت المخيلة البشرية: حكايات ألف ليلة وليلة التي تعيش وتتنقل في الزمن والذاكرة الإنسانية من دون مؤلف، نظيراً لمفارقة أخرى يمثلها وجود واحد من أعظم فلاسفة العالم وأقدمهم هو سقراط الذي لم يترك وراءه مؤلَّفاً.
حياته وأفكاره كانت هي كتبه لهذا العالم الذي مر به وغادره إلى مكتبة بسعة الفردوس، أو فردوس بحجم مكتبة. |