مَا ان اكمل الاستاذ عبدالفتاح ابراهيم دراسته الثانوية سنة 1924 حتى وجه له الاستدعاء لمقابلة الباشا نوري السعيد، وزير الدفاع ، إذ انه احد الخريجين السبعة الذين يفضل التحاقهم بالكلية العسكرية في دورتها التأسيسية الاولى ، وكان يستلزم الامر التحاق اربعة عشر طالبا من المدارس الثانوية الى الكلية العسكرية لتكون النواة لتأسيس الجيش العراقي الحديث، وكان في مقدمة الاسماء التي تقدمت للالتحاق بها نجيب الربيعي خريج المدرسة الثانوية للسنة السابقة وحسيب الربيعي ورفيق عارف وشقيقه وفيق عارف وعبدالمطلب الهاشمي واخرون جيء بهم من البصرة لاكمال العدد المطلوب.
وفي يوم مقابلتنا لنوري السعيد التي تمت فوق (طاق - باب المعظم -يقول عبدالفتاح ابراهيم - اعتذرت من الالتحاق بالكلية العسكرية لكوني ارغب في اكمال دراستي بجامعة بيروت هذا ما ابديته من اعذار امام (الباشا) الذي وعدني باكمال الدراسات العليا على نفقة الحكومة،
وكان هذا لقائي الاول مع نوري السعيد الذي كنا ننظر اليه كطلبة شباب نظرة وطنية على انه يريد تكوين جيش وطني ليكون بديلا عن جيوش الاحتلال البريطاني.
وفي ايام دراستنا في بيروت، كان نوري باشا يأتي للاصطياف في لبنان وقد قمنا بزيارته في الفندق الذي كان ينزل فيه بالغرب من بيروت ويقع في قرية (رمانة).
في السنوات الاولى من التحاقي بجامعة بيروت كان يصحبنا اليه المرحوم يوسف زينل رئيس جمعية الطلبة العراقيين، للسلام عليه، ومعنا نجله (صباح نوري السعيد) الذي كان يدرس بـ (البريف) (وهي الدراسة المتوسطة للاعداد للكلية في جامعة بيروت) وتطورت تلك الزيارات من سنة الى اخرى الى نوع من المناقشات والطروحات الوطنية بالمسائل التي كنا نطرحها عليه ببساطة، مثل ضرورة طرد الاستعمار البريطاني وتحقيق الاستقلال الوطني للعراق فكانت اجاباته متواضعة حسب قناعاته الشخصية في ان ذلك يعرض العراق للتجزئة والمخاطر، وعندما كنا نتمادى بتلك المناقشات معه كان يزجرنا برده بنوع من سخرية المداعبة قائلا: تعلموا الان، وتكبرون وتعقلون..؟
بعدَ رجوعي من امريكا يقول عبدالفتاح ابراهيم - والنجاح الذي تحقق بلقاء جماعة بغداد وجماعة بيروت من خلال اصدارنا جريدة الاهالي. ومن ثم ظهور جماعة الاهالي على المسرح السياسي المؤثر لاستقطاب الشباب المثقف الى صفوف الحكومة كان الباشا يستخدم سياسة الترغيب والاغواء.. والمجاملة.. والتاثيرات العائلية بصورة شخصية لاجتذاب الشباب من اجل تفريق صفوفهم، وتشتيت وحدة كلمتهم . وافراغ اهدافهم التقدمية من مضمونها في الاصلاح الشعبي الحقيقي ومنها ما قيل الينا اذا اردتم خدمة الشعب، عليكم ان تأخذوا وظائف جيدة بالدولة، لكي تطبقوا مبادئكم الوطنية بواسطة النائب ثابت عبدالنور عن طريق جميل توما وعلى هذا الاساس راينا ان لا ضير من مناقشة هذا الموضوع مع نوري السعيد وفتح حوار معه لما من شأنه خدمة الوطن، وتعميم الاجواء والديمقراطية واغناء التجربة الشعبية، على هذا وجه الينا الباشا دعوة غداء في بيته.
وقمنا بتلبية الدعوة، وكان معي درويش الحيدري وعلي حيدر سليمان وجميل توما وعبدالله بكر، إضافة الى ثابت عبدالنور وعندما وصلنا الى بيت (الباشا - نوري السعيد) في باب المعظم جالسا في (الاودة) اي غرفة الاستقبال يفترش الارض على فراش وثير وامامه (عرق عراقي) والى جانبه البعيد شخصان بالزي البغدادي يقرآن المقام العراقي فاستقبلنا بشفافية وترحاب، واخذنا الى غرفة مجاورة.. وبينما كنا نتبادل التحيات وكلمات المجاملة، جاء مزاحم الباجه جي، واخذ يتجاذب اطراف الحديث مع الباشا وثابت عبد النور وكان حديثهم بين النكتة المضحكة، والطرفة النادرة الى ان نصبت مائدة الغداء التي احتسيناها بصمت اداب المائدة..وغادرنا شاكرين صاحب الدعوة لكرم الضيافة.
(وفي اليوم التالي علمنا بتعيين السيد عبدالله بكر سكرتيرا لوزير الخارجية كون والده من معارف الباشا).
وكان اللقاء الرابع مع (الباشا نوري السعيد) بداره الواقعة في بيوت السكك بالصالحية عام 1946 ففي اثناء وجودي بالحزب (حزب الاتحاد الوطني) حيث رن جهاز الهاتف فكان بيننا هذا الحوار.
- نوري السعيد
-اهلا باشا
-اريدك تاتيني الى البيت
-باشا انا ما اندل بيتكم، وليس لدي سيارة.
-سوف ارسل لك سيارة تنتظرك الى جانب جامع الاوقاف.
فاستقبلني حسب عادته البغدادية بحديث ممزوج بالنكتة قائلا:
(هذه كل القوانين والانظمة التعاونية العربية والعالمية، وحتى لو تريد الانظمة الروسية سوف اجلبها اليك - ارجو ان تقوم بوضع نظام للجمعيات التعاونية في العراق على ان تتولى شؤونها التنظيمية والادارية).
- فاعتذرت له من القيام بهذه المهمة (كوني رئيس حزب.. ولست موظفا بالحكومة).
اللقاء الخامس كان بيننا على اثر تكليف الباشا نوري السعيد بتأليف وزارته التاسعة بتاريخ 21 / 10/ 1946 وتصريحاته في المؤتمر الصحفي في ان الذين يشتغلون في السياسة يجب ان يكونوا من الاغنياء في محاولة من الباشا في تجاهل دور حزبي الاتحاد الوطني الذي كان برئاسة عبدالفتاح ابراهيم وحزب الشعب برئاسة عزيز شريف والصاق تهمة الشيوعية بينما. هذا ما حدثني عنه عبدالفتاح ومن اجله كتب مقالا افتتاحيا في جريدة الحزب لتنفيذ اقوال نوري السعيد التي صرح بها في المؤتمر الصحفي اذ قال: (اني لا اعتقد ان في البلد شيوعية ولكن هنالك اناسا متذمرين..ويزيدونها بدعاية مختلفة، ان الشيوعية تظهر في البلدان الصناعية اما نحن فلا صناعة عندنا) هذا النص اورده الباحث عبدالرزاق الحسني في موسوعته (تاريخ الوزراء). اما مقال جريدة السياسة فلم اطلع عليه بسبب سرقة (جريدة السياسة - وصوت السياسة) من المكتبة الوطنية قبل سنة 1999. وان النسخة الشخصية لعبد الفتاح ابراهيم فقد استعارها احد معارفه وبقيت لديه.
بعد تصريحه ذاك كان نوري باشا يلتقي رؤساء الاحزاب التي منحت رخصة اجازتهم في حكومة السويدي، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فكان لقاءً اسبوعيا مخصصا للاجتماع في مجلس الوزراء في كل يوم اربعاء. وخلال اللقاءات كان الباشا يتحف الحضور بالنكات. الشعبية ويسمعهم صوته الخافت صحيح انه حريص على العراق، ولكن حسب شروط الوكالة الانكليزية.
وفي كثير من الاحايين كان يدندن في اذن هذا ليفشي عليه ذاك وتلك هي بعض مهارات رجال الحكم. وطلاب السياسة الذين يسعون الى الفوز خارج الحسابات العلمية، ويوهمون انفسهم بالالتجاء الى طريقة الفبركة السياسية.
مرة - يقول عبدالفتاح ابراهيم - كتب عني حميد الدهان مقالا في احدى الجرائد زاعما اني قلت لرئيس الوزراء (باني استنكر الشيوعية) فكتبت مقالا بتفاصيل الحديث، واقوال الحضور واتضح باعتراف الجميع ان القول جرى تحريفه من مجمل تساؤل عام في ان العراق (هل استطاع ان يخرج الاستعمار الانكليزي حتى يكون بامكانه ادخال استعمار الشيوعية).
هكذا كانت اللقاءات بين الاعوام (1925-1948) كما يتضح من الاحاديث الشخصية للمرحوم عبدالفتاح ابراهيم في معرض استذكاراته عن نوري - باشا - السعيد ويذكر انه رآه مرة في منطقة مصلحة نقل الركاب سنة 1948 فامر بالقاء القبض عليه، لان ذلك اليوم كان يصادف ذكرى وثبة كانون في حين لم يكن يدور ببال عبدالفتاح اي احتفال بتلك الذكرى المجيدة، لكن نوري السعيد اساء تقدير الموقف في حسبانه؟ (عبدالفتاح والجادرجي) كانا يسيران ضمن تظاهرة عام 1947 فتذكر ذلك الموقف وامر بالقاء القبض عليه وايداعه في السجن. ولعل تلك الحادثة اخر مسلسلات العنف والتعسف من قبل نوري السعيد، بعد غلق حزب الاتحاد الوطني وفشل مشروع الدعوة لتوحيد الحركة الديمقراطية، واعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي والضمور الذي اصاب الحركة الوطنية، وتصلب عبدالفتاح ابراهيم في مواقفه المبدئية بعدم تنازله للاستقطاب الرجعي الذي هيمن على الساحة السياسية ابدى الباشا مرونة ازاء عبدالفتاح تمثلت بالمداعبات الشخصية اثناء الحفلات الرسمية بذكرى ثورة (اكتوبر) الاشتراكية في سفارة الاتحاد السوفيتي حين كانت توجه الدعوة الى الباشا نوري السعيد بصورة رسمية والى عبدالفتاح ابراهيم بصفته شخصية وطنية . . من دون ان يقتربا من بعضهما وبمرور السنين اخذ “الباشا” بكسر صمت العلاقة بينه وبين عبدالفتاح ، كان نوري السعيد يجول بنظره في المحيطين ما بين سفير الاتحاد السوفيتي ومن يحيط به من سفراء الدول الاجنبية ليبحث عن صديقه المشاكس عبدالفتاح ابراهيم ليناديه باللهجة البغدادية تعال خلصني من صاحبك.
عن (المدى) |