|
|
عن مهنة السياسة وامتهانها |
|
|
|
|
تاريخ النشر
04/03/2008 06:00 AM
|
|
|
ثمة خيط رفيع بين المهنة (العمل، التخصص، النشاط) والامتهان (المشتق من الاهانة او الهوان). فالثقافة العربية ترى، بحسب علي الوردي، ان مزاولة أي عمل (عدا الغزو والنهب) يعد بمنزلة المهانة، من هنا الجذر المشترك مع مفردة «المهنة». في المقابل فان كلمة المهنة، في اللغات الالمانية / الفرنسية الانكليزية، توحي بنوع من النداء القدسي، او العبادة. لست في وارد احياء البرزخ الفاصل بين غرب وشرق، أو بين عقلانية ولا عقلانية متضادتين زعماً. فالثقافة العربية تحوي كلمات اخرى تفيد المهنة، مثل: العمل، المشفوع بتقديس بائن: مثل تكريم «العمل الصالح» ومكافأته او القول بأن «خير العبادات العمل». هذا التفارق بين المهنة والعمل، داخل الثقافة العربية، والتفارق بين المهانة والنداء القدسي في جذر كلمة «المهنة» عند الثقافة العربية والثقافة الغربية، يذكرني بحال اتخاذ السياسة مهنة في العراق، ولربما في العالم العربي كله، فهو اقرب الى المهانة، والامتهان. كلما أمعنت النظر في الطبقة السياسية الجديدة في العراق وجدتها تقترب من هذا التوصيف، عدا استثناءات قليلة. يعرف دارسو التاريخ السياسي والاجتماعي ان الانخراط في السياسة، بمعناها الحديث، كان نابعاً من شغف وهوى بالسياسة، وان السياسي، على حد تعبير احد المفكرين، كان يعيش للسياسة وليس منها. فالمداخيل والمنافع الاقتصادية كانت تأتي من خارج ميدان السياسة. ولعل هذا ينطبق، بحدود، على زعماء احزاب العمل السري، او شبه العلني، فهم يمارسون السياسة شغفاً وحباً بقضايا. وهم لا يجنون منها ثروة، بل يكرسون لها ثرواتهم الشخصية، ابداعاً ووقت عمل، وحتى ممتلكات. في الدولة الحديثة، العلنية، برزت فئات جديدة تعيش للسياسة وتعتاش منها، مختلطة بطفيليات تعتاش من السياسة ولا تعيش لها. هذا الاحتراف السياسي دفع الكثير من المفكرين والكثير من فقهاء القانون الى رسم الأسس ووضع الحدود لتحول السياسة الى مهنة، ومنع امتهانها. وكان عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر يرى ان شروط ممارسة السياسة كمهنة، أي احترافها لأجل العيش لها والعيش منها، تقوم على عناصر ثلاثة هي: الشغف بالنشاط السياسي الدال على وجود موهبة، لكن هذا الشرط الاول لا يكفي وحده في إسباغ الشرعية على صاحبه ما لم يكن شغفه مقترنا بالشعور بالمسؤولية، أي اخلاق المسؤولية ازاء الآخرين، ازاء القانون، وما شاكل. واخيرا ثمة ركن ثالث هو الانفصال العاطفي عن الوقائع والاشياء والناس لكي يتلمسها ويدركها بشكل متوازن. هذه الشروط الثلاثة تبدو لي مضحكة في حال العراق. فالشغف بالسياسة، في الحال العراقي وغيره، هو هوس بالمناصب والالقاب، يدوس في سبيله المرء كل المحرمات، أو يطرق لأجله كل ابواب القرابة والوساطات والتوسطات. أما الشعور بالمسؤولية، أي الركن الاخلاقي لاحتراف السياسة، فيتمثل في تزوير الشهادات للحصول على مقعد في البرلمان، وهناك عدد من النواب في البرلمان العراقي اشتروا «شهاداتهم» من سوق «مريدي»، اشهر اسواق عالم الجريمة السفلي في بغداد. بل ان أحد المحافظين زوّر شهادة تخرج من ثانوية اتضح انها مدرسة للبنات! ثمن هذا التزوير الفاقع مقعد برلماني يدر على صاحبه خمسة آلاف دولار راتباً، وعشرة آلاف دولار رواتب حراس ومرافقين لا وجود لهم إلا على الورق. أما الانفصال العاطفي عن الاشياء والبشر، فيتجلى في اختيار المسؤولين لحشد من المستشارين ووكلاء الوزارات ورؤساء المؤسسات المهمة، من بين زمر الاتباع والحاشيات المتزلفة، او انصاف المتعلمين، او حتى الجهلة. فبائع سجاد يتحول، بين عشية وضحاها، من صاحب دكان الى رئيس هيئة تنموية تدير بضعة مليارات من الدولارات المخصصة للاستثمار، او بائع اطارات يتحول، في اليوم التالي، الى مدير عام اجهزة حساسة، او صحافي عادي، لينقلب الى مستشار خطير، وممرض ليصير وزيرا او وكيل وزير. هذه التعينيات، الاقرب الى توزيع المنافع، حولت الجهاز الجديد للدولة الى مرتع لطبقة رثة، بحرفية التعبير، لا مجازه. واذا تركنا القواعد الفيبرية الثلاث لمتطلبات اتخاذ السياسة مهنة، لاجل العيش لها والعيش منها، والتفتنا الى القواعد القانونية لاحتراف السياسة، لوجدنا أن أهمها هو تحريم الجمع بين الوظيفة السياسية داخل الدولة، والوظيفة الاقتصادية خارجها، سيان كانت هذه شركة او مؤسسة، أي تحريم المزج بين المال العام (محفظة الدولة) والمال الخاص (جزدان المسؤول)، وتحريم التعاقدات بين اجهزة الدولة وهذه المؤسسات انطلاقاً من مبدأ التصادم بين المصلحة العامة للدولة والمصلحة الجزئية للفرد. ولكن ما همّ؟ إن مسؤولي الصف الاول، ودون استثناء تقريباً، لديهم شركات ومشاريع اقتصادية، شخصية، تعمل في القطاع الخاص، وتدر الملايين. وهناك تقارير تشير إلى ازدياد هذه الظاهرة بشكل يثير القرف. لن ندخل في متاهة النهب والاختلاس الذي «يشفط» من ميزانية الدولة العراقية بضعة مليارات كل عام، نعم مليارات من الدولارات، انما ندخل متاهة شغف القادة السياسيين ومستشاريهم ونوابهم بالعيش من السياسة خارج السياسة. هذا الشغف تحول الى هوس مرضي، الى ذهان جمعي وسط الطبقة السياسية الجديدة، العاجزة حتى الآن عن جمع القمامة في العاصمة، او ترميم مدرسة. اسرقوا، اسرقوا، فلكم ملكوت الارض. وانهبوا، انهبوا، لكم كل قرش في الخزائن. واحرقوا، احرقوا ملفات الدفع والقبض في الوزارات والبنوك، لمحو الآثار. لكم الملكوت وللعراقيين البؤس.
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فالح عبد الجبار
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|