حوار مع عبد القادر الجنابي
هل تظن ان المواقع الثقافية متقدّمة اليوم، من حيث الحضور والحيوية ومواكبة المتغيرات الثقافية، على الدوريات والصفحات الثقافية في الجرائد؟
- من حيث الكم نعم، أما من حيث النوع فلم تتقدم لا ثقافيا ولا تقنيا. فأغلب ما يسمّى بالمواقع الثقافية لم تستطع خلق سمات مميزة بها، فهي، في اغلب الأحيان، تعيد نشر مقالات كتّاب يعملون في قسم الثقافة في الصحافة الورقية: وهذا يعني أن إعادة النشر هذه ليست رغبة نابعة من حرص ثقافي ومسؤول، وإنما من باب المقايضة والإخوانجيات، كي يستطيع المشرف على هذا الموقع أو ذاك أن يَنشر أو يُنشر عنه في ثقافة الصحف الورقية. وإلا كيف نفسر ظاهرة المدح العالي في الصحافة الورقية لأميين. كما أن الثقافة الشبكية لا تتقدم البتة على الثقافة الورقية، وإنما تعكسها. وبما أن الثقافة الورقية عندنا هي نفسها متخلفة، فالثقافة الشبكية تبيّن هذا التخلف. ربما هناك نقطة واحدة تتميز بها الثقافة الشبكية عن الورقية، هي: "حرية" الردح والقدح.
هل بات النشر على الانترنت الطريقة المحتّمة من اجل حضور ثقافي فاعل، بحيث إما ان تكون حاضراً على الشبكة وإما انت غير موجود؟
- نعم! فالأميون ليس لهم أصلا وجود، لذا على كل واحد منهم أن يقنع نفسه كل صباح أو مساء بأنه موجود فيدبّج مادة ويرسلها الى هذه المواقع، فيرى اسمه وصورته فيشعر برهزة... الطامة الكبرى أن مسؤولي الأقسام الثقافية في الصحافة الورقية يعيشون عقدة الظهور نفسها، فيقبلون بكل شروط المقايضة مع أميي هذه المواقع، لكي تظهر أسماؤهم فيها. وإذا كان هناك بعض الحضور الثقافي الفاعل لعدد محدود من المفكرين والمثقفين، فهو لا يزال على الورقية أكثر مما على الشبكية.
عالم موازٍ موجود اليوم على الشبكة يتيح حريات وآفاقاً لم تكن متوافرة للكاتب العربي قبل الآن. الى اي مدى يتيح النشر على الشبكة حرية اكبر؟ وما طبيعة هذه الحرية واين هي حدودها؟ وهل يجيد الكاتب العربي استغلالها؟
- في مقال لي نشرته "مسارات" العراقية، جاء فيه الآتي: الانترنت عالم فسيح، وهو مُكوِّنٌ ثقافي في المجتمعات الحالية. فهو يشكل، من وجهة نظر العالم المتطور كأوروبا وأميركا، امتدادا للحرية الفكرية ووسيلة تفضي بالباحث إلى كل ما لم يخطر بباله. فاستخدام الأوروبيين للانترنت استخدام معرفي، غرضه الاستفادة والاطلاع والتمتع. بينما، الانترنت من وجهة نظر المجتمعات العربية، ليست سوى نافذة تطل على ما تفتقر إليه هذه المجتمعات: الحرية الفكرية. إنها المرآة التي تنعكس على سطحها الثقافة الغائبة في الحياة العربية اليومية. وها أن حالة استمنائية تتجلى في علاقة قارئ الثقافة الذي يعيش في دمشق، الخليج.. الخ، مع محيط ثقافي فاقد الهوية اسمه الانترنت. فالثقافة الافتراضية المتجلية بالانترنت هي أشبه بصورة يَنظر إليها هذا القارئ لكن غير مسموح له بتفعيلها عمليا ودون خوف. الانترنت لا تزال، عندنا، مجرد شاشة، وليس كما يفترض ويعمل به، في أوروبا مثلا، أداة بحث. من هنا نجد آلاف المواقع الثقافية، لكنها مفرغة من الدور الثقافي: البحث الجدي، إيقاظ الوعي والشعور بالمسؤولية. إنها أشبه باستبدال كبت واقعي يومي بحرية وهمية وإيهامية لا نتيجة لها.
لا يزال القطاع الاعلاني العربي على الشبكة ضعيفاً بل شبه معدوم، علام تعتمدون في مسألة التمويل؟ وهل النهوض بموقع ثقافي هو مسألة مكلفة عموماً؟
- هناك نمطان من المواقع. النمط الأول وهو المنتشر فتح دكان لقاء ثمن بسيط سنوي والاكتفاء بأخذ مواد من هذه الجريدة او ذلك الموقع الكبير، وأصحاب الاعلانات لا يفكرون لحظة في نشر إعلان في هذه الدكاكين. أما النمط الثاني وهو المسمى جرائد الكترونية كـ"إيلاف" (تكلف ناشرها ما يقارب مليوني دولار سنويا) وتعتمد على تمويل مستقل ومن جيب صاحبها، وكونها مستقلة وتسمح لكتابها بالتعبير بحرية كاملة عن أفكارهم، حد أن تُحجب بسببهم ("إيلاف" للعلم محجوبة منذ أعوام في السعودية)، فالإعلان جد ضروري لها للتخفيف من العبء المالي، لكن، بما أن في مجتمعاتنا المتخلفة كل شيء مشدود الرجل، فإن الحصول على إعلان ليس بالأمر السهل، ولأن مجتمعاتنا يتحكم فيها الاستبداد والرقابة بأعلى درجاتها، فإن الإعلان مرتبط جوهريا بمشيئة النظام، ولن يتوافر لأي مؤسسة إعلامية مستقلة، ولا يدلّ توافرُه على أي منفعة اقتصادية بقدر ما يدل على تقليص حرية التعبير وخنقها. ومع هذا، هناك عدد ضئيل يريد أن يعلن في "إيلاف" بسبب نسبة قرائها العالية جدا.
ما حجم المشاكل المتعلقة بحقوق الملكية الأدبية والفكرية التي تواجهها في هذا الفضاء المفتوح في ظل غياب التشريعات الواضحة في العالم العربي؟ وكيف تتعامل مع هذه المشاكل؟
- من خلال تجربتي في "إيلاف" (هنا تكمن فضيلة الانترنت) وجدت ان الثقافة العربية يمكن اختزالها بكلمة واحدة: انتحال. فنحن ما نكاد ننشر مادة ثقافية أو فكرية، بل حتى تقارير صحافية صغيرة، حتى نجدها بعد ساعة في هذه المواقع اللامسؤولة، من دون ذكر المصدر، بل حتى من دون ذكر كاتب المادة وموقّعة باسم آخر نكرة لا أحد يعرف من هو. لذا أنا اعتقد انه على عدد من المواقع الإعلامية الكبرى، وهي عدد صغير، أن تتوحد في مسألة اتخاذ إجراءات قانونية ضد كل هذه التصرفات الضاربة في صميم المرجع الفكري اللازم لفهم المكتوب؛ أن يتابع محام مثلا أمر السرقة مع مسؤولي السيرفور لغلق الموقع السارق. لمدة شهر، شهرين، سنة أو مؤبد، حسب حجم السرقة التي قام بها.
كيف تؤثر طبيعة الموقع الثقافي من حيث كونه فضاء افتراضياً على النص المنشور وعلى طريقة تلقّيه؟ وهل تلاحظ نشوء كتابة جديدة تحمل سِمات حاملِها الافتراضيّ؟
- أولا أن الانترنت لا تؤثر قطعا على مضمون الثقافة أو على شكل الكتابة، وإنما تؤثر اقتصاديا على الشكل البضاعي للثقافة. مثلا، فكرة تحميل الموسيقى لقاء ثمن زهيد، أثّر كليا على تجارة الأقراص المدمجة، لكن لم يؤثر قطعا على مضمون الموسيقى. وأعتقد أن الفضاء الورقي لا يزال عندنا هو الطاغي وهو سيد الأمر، وهذا يعرفه كل من أنشأ موقعا في فضاء الانترنت. فالقارئ لا يزال يحترم المكتوب المطبوع وليس المكتوب الرقمي، بل حتى المشرفون على المسمّاة مواقع ثقافية، يشعرون برعشة جنسية أذا طبعت لهم دارُ نشر كتابا، أو صحيفةٌ مقالا، وعندها فقط يستطيعون أن يعتبروا هم أنفسهم كتابا. الانترنت بالنسبة الى القراء العرب، وكل بحسب حاجياته، أشبه بآلة فوتو كوبي توفر له نسخا مرئية لما لا يستطيع الحصول عليه مما هو مطبوع. فالانترنت توسع وسيلة الإيصال من دون أن تؤثر على محتوى المراد لإيصاله. أما المتلقي فهو أساسا غير موجود عندنا بالمعنى الدقيق للكلمة، أيْ متلقٍّ له حريته الكاملة بتلقي الأفكار واختيار ما يريد. المتلقي عندنا ورقيا وشبكيا، بصّاص مرعوب من فكرة أن يُرى، وتالياً تزدوج في ذهنه المادة المتلقاة – المبصوصة، ازدواجا يضطر إلى إخفائه حتى لا يُتهم بأنه خرج على طاعة البيت. الكتابة لا تعود جديدة إلا إذا مسّت "المقدس" وخففت من سيطرته، وهذا لا يحدث إلا ورقيا أولا ثم ينعكس شبكيا. كل هذه الأسئلة لا نجدها هنا في أوروبا لأن الناس هنا يتعاملون مع الانترنت كأداة بحث، وليس كسرداب للبص والتلصص. |