... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
حوار ... امبرتو إيكو: العمل الفني وثيقة نتعامل معها بحذر

تاريخ النشر       27/02/2008 06:00 AM


كتب تاريخ البشاعة بعدما انتهى من تاريخ الجمال

أصدر الكاتب الإيطالي أمبرتو ايكو، الذي اشتهر بروايته “اسم الوردة”، كتابين أثارا كثيرا من الاهتمام، كما الأمر بالنسبة لمختلف إصداراته السابقة، الأول “تاريخ البشاعة” والثاني مؤلف نظري عن الترجمة. في هذا الحوار اقتراب من كتابي كاتب عالمي يتقن السفر بامتياز بين الكتابة الأدبية والتفكير فيها.

ثمة من جهة رواياتكم ومن جهة أخرى دراساتكم حول السيميائيات والفلسفة والترجمة. كيف تدبرون الأمر؟
- كل مفكر يتوفر على رواية أو أكثر داخل دواليبه. والتمييز بين المفكرين هو أمر بسيط. فثمة الذين تحظى رواياتُهم بنجاح وآخرون الذين كان مصير رواياتهم النسيان. ولا يجب أن ننسى أن الحكي يشكل رغبتنا الأولى. فكل أب يحكي قصصا لأبنائه، وهو ما نسميه بالسرد الطبيعي. وكل الذين يمتهنون الكتابة، كما هو الأمر بالنسبة للمفكرين، يُظهرون، في لحظة ما من حياتهم، الرغبةَ في الحكي.
 لديكم قدرة رائعة على تحليل نصوص غيركم بخلاف نصوصكم، كما لو أن التحليل يمكن أن يشل قدرتكم التخييلية وأسلوبكم.
- الأمر كذلك بالضبط. فتحليل نصوص الغير يمنحكم مجموعة من الوسائل التي تمكنكم من الكتابة، ويُعَلمكم الحيلَ الأولية التي يتوجب على الكاتب معرفتها. أما تحليل النصوص الشخصية فهو أمر آخر، وهو خطير. لأنه يحطم كل اليقينيات. ويمكن أن أستحضر هنا مثالا: لقد كنتُ أعتقد دائما أن العنصر الأهم داخل العمل الروائي هو التاريخ، أي بنية عالم ما. أما الأسلوب فَيَلي ذلك. والروائيون السيئون هم الذين يعتقدون أن الكتاب هو قبل كل شيء قضية أسلوب، لأن سؤال الرواية هو بناء العالم. وتلك هي قناعتي الراسخة. غير أن الذي حدث في روايتي “بودُلينو” هو العكس تماما، حيث إن الكلمات هي التي حددت بناء عالمي. فحينما بدأتُ كتابة الرواية لم تكن لديّ أي فكرة عن هذه الشخصية إطلاقا، وما قمتُ به هو أنني أوجدت اللغة التي عبرت فيها طيلة الفصل الأول، وانطلاقا من هذا بالضبط تولدت التركيبة النفسية لشخصية الرواية. وقد تم ذلك ضدا على ما كنتُ مقتنعا به بخصوص فن الرواية. وهو ما حدث ذلك مرة واحدة فقط.

 هل تندرج كتابتك لتاريخ البشاعة في إطار مشروع محدد، أم يرتبط برغبةٍ بعد نجاح تاريخ الجمال الذي كنتَ قد أصدرته؟
- يتعلق الأمر بمتتالية حوادث. ففي نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كنتُ أشتغل لدى الناشر بومبياني الذي ما زال ناشري الشخصي حتى الآن. وكتبتُ تاريخا للاختراعات، وتُرجم الكتاب إلى تسع لغات. فطلب مني الناشر المذكور مشروعا آخر، فاقترحت تاريخا للجمال. وشرعتُ في جمع الصور والنصوص وغيرها من المواد، وكانت تساعدني على ذلك شابة ألمانية. وفي يوم ما، حدث ما يحدث غالبا في دار نشر: تفحص الناشر ميزانيته، وقال “لنتوقف”!. فخبأتُ إذن كل ما جمعتُه داخل دولاب، وتزوجتُ الفتاة الألمانية، ولم أعد للتفكير في تاريخ الجمال هذا. وبعد أربعين سنة، طلب مني صديق يشتغل على الأقراص المدمجة إن كانت لي فكرة ما، فقلتُ له: “نعم، تاريخ للجمال”. وفتحت من جديد دولابي، وتخلصتُ من محتواه الذي كان قد تقادم، وبدأتُ إعادة العمل والكتابة من جديد. ثم أبدى ناشري رغبته في نشر ما أعددتُه في كتاب، وهو الذي ترجَمَته 27 دولة. وطلب مني ناشري كتابا آخر، فاقترحت تاريخا للبشاعة.

 هل يتوجب فصل تاريخ البشاعة عن تاريخ الفن، كما اقترحتم بالنسبة لتاريخ الجمال؟
- بالتأكيد. حينما تفتحون هذا الكتاب، ستلمحون سلسلة أعمال فنية. ذلك، لأنها الوسيلة الوحيدة لتدوين تصور البشاعة عبر العصور. أما بالنسبة لمرحلتنا، فالأمر مختلف جدا. وأنا أقول دائما إنه لو بُعث مارتيان من جديد، بعد ثلاثة آلاف سنة، ورأى لوحة لبيكاسو لاعتقد أن رجال القرن العشرين يحبون النساء كما يرسمهم بيكاسو. وبالنسبة للحضارات القديمة، يبدو من الصعب معرفة إن كان قناع ما كوميديا أو مُرعبا؟. ولذلك لا يمكننا أن ننجز تاريخا للجمال أو للبشاعة بالنسبة للبلدان غير الغربية. لنأخذ مثلا فينوس الرسام روبنس. فبالنسبة له، كانت هذه المرأة جميلة، وهو ما لا أرى أي أثر له. كما لن تكون لي رغبة في اصطحاب امرأة الفنان ريمبراندت التي كان لها شارب.. العمل الفني إذن وثيقة، لكن يتوجب التعامل معها بكثير من الحذر.

 ما هي البشاعة؟ هل هي ضد الجمال؟
- ليس هذا تعريفا كافيا. بل يجب إدماج مفهومِ للمعيار قائم على معدل معين للكائن. فالإنسان لا يمكن أن يتجاوز طوله المترين وإلا صار عملاقا.
 كتبتم أنه يتوجب التمييز بين مظاهر البشِع في حد ذاته والبشِع الشكلي. ما الذي يعنيه ذلك؟
- البشع في حد ذاته هو الذي يحمل شكلا كونيا. ويتعلق الأمر، على سبيل المثال، بجيفة أو فاكهة متحللة أو جثة، وهي أشياء تدعو كلها للاشمئزاز. وإذا كان بالإمكان للأشياء التي تدعو للنفور أن تختلف باختلاف الحضارات فإن مظاهر هذا النفور هي، بالمقابل، كونية كما هو الأمر بالنسبة لوضع ما للأنف. أما البشع الشكلي فلا يُعتبر مُنفرا. ويتجلى ذلك على سبيل المثال من خلال نموذج لوحة الفنان جيرلانديو، حيث نلمح شيخا وطفلا، وحيث يبدو الشيخ بوجه عادي تقريبا، مع أنف غير منسجم مع الوجه. ولا يدعو هذا الأمر للنفور بقدر ما يمنح الإحساس بكون الشيخ بشعا. ونلمح في عيني الطفل شكلا من الحب والإعجاب للشيخ البشع. وأجد أن هذه اللوحة تلخص مجمل نظرية البشاعة، وتؤكد إمكانية وجود وجوه بشعة يمكن أن تكون محبوبة أو مضحكة.

 ما الذي يؤسس إذن للبشاعة؟
- لاحظ هيغل أن جميع الرجال يجدون نساءهم، أو على الأقل خطيباتهم، جميلات. وقد كانت له رؤية سلبية إلى حد ما للزواج. ويعكس ذلك نسبية الجمال. ويجب التمييز بين الجمال والجاذبية. وهذه الأخيرة ميزة لا علاقة لها بالجمال أو البشاعة. ولا تطلبوا مني أن أُعَرف لكم الجاذبية، لأنني لو كنتُ أعرف معناها لأعددت كتابا عن تاريخها. فهي ترتبط بحركات وتفاصيل جزئية. إذ أن النظر هو الذي يخلق الجاذبية، فالذي أجده جذابا قد لا تجده أنت كذلك. ويمكنني أن أذكر ممثلات عديدات يَعتبرهن كل العالم جميلات، لكنهن بالنسبة لي لسن كذلك. وقد ناقش الفلاسفة طويلا الفرق بين الجيد والجميل. فالجيد هو شيء نرغب فيه ونود امتلاكه، كما هو الأمر بالنسبة لفعل بطولي نود أن نكون من يقوم به، بينما يُعتبر الجميل شكلا يمكن أن نُعجب به من دون امتلاكه. فأنا يكمن أن أحب عملا فنيا من دون امتلاكه بالضرورة، وإلا فإن الأمر سيكون من اختصاص علم النفس. وهو الأمر بالنسبة لجامِع اللوحات المجنون الذي سيسرق الجوكندا ليس من أجل عرضها على أنظار ضيوفه ولكن من أجل وضعها في دهليز.

 تنتقلون في كتابكم من تاريخ للبشاعة إلى نظرية للبشاعة..
- أبدا. كنتُ حذرا في ذلك بشكل كبير. فلا يمكن أن تكون هناك نظرية للبشاعة إذا لم تكن هذه الأخيرة مفهوما محددا، والحال أن الواقع عكس ذلك. فالنظرية لا تتغير، بينما يتسم التاريخ بحركيته الدائمة. وقد حاولتُ أن أبين أن لكل فترة تاريخية مفهومها الخاص للبشاعة، لكن ذلك يبقى مُتسِما بقليل من الاختزال ولا يعكس الحقيقة التاريخية. وأظن أنه ليست هناك نظرية مقنعة خاصة بالبشاعة بحكم غياب نظرية مقنعة للفكاهي.

 ماذا تعنون بذلك؟
- لقد حلمتُ طيلة حياتي بكتابة نظرية للفكاهي. وقد تجاوزت الأمر الآن، حيث قررت عدم كتابتها. وهكذا ستُنجز مئات أطاريح الدكتوراه حول ما كان يمكن أن تكون عليه النظرية..

 تتناولون أيضا البشاعة الصناعية خلال القرن التاسع عشر.
- يتعلق الأمر هنا بظاهرة مختلفة. ففي لحظة ما، انتبهتْ أعمالُ الأدب والرسم إلى أن العالم الصناعي كان بشعا. لكن الأمر ظل بعيدا عن رؤية طبقية، لأن هذه البشاعة كان يتمثلها بالدرجة نفسها كل من الفقير الذي كان يعيش داخلها والرسام الذي كان يرسمها. فالحياة الصناعية وأشكال فقرها قد جعلت كل العالم متفقا على مفهوم البشاعة.

يُعتبر كتابكم حول تاريخ البشاعة كتابا من دون نظرية. وبموازاة معه أصدرتم مؤلفا حول الترجمة، وهو عمل نظري. ما الذي تعنيه الترجمة؟
- الترجمة تعني بالضبط قول الشيء نفسه، أي التعبير عما كُتب في نص آخر مع الاعتقاد بكوننا نقول الشيء نفسه، بينما لا يُعرف جوهر النص. وهذا الجوهر هو الأسلوب والكلمات. والترجمة هي بالتالي اتفاق.

هذا الكتاب ليس فقط دراسة عن الترجمة، ولكن أيضا عن الوفاء، إلى أي حد يمكن أن يكون عدم الوفاء مقبولا؟
- تبدو لي كل النظريات حول الترجمة غير مقنعة. وقد تَمتْ بلورة هذه النظريات من طرف أشخاص لم يسبق لهم أن مارسوا الترجمة ولا أن تُرجمت أعمالهم. وأجد نفسي في وضع مختلف، لأنني ترجمتُ نيرفال وكينيو، ولأنني أيضا اشتغلتُ في دار نشر، حيث كنت أراجع ترجمات آخرين، كما أنني تُرجِمتُ، ككاتب، إلى العديد من اللغات، واشتغلتُ مع مترجمي أعمالي. فأنا إذن راكمت تجربة ثلاثية، الأمر الذي لا يبدو متاحا بالضرورة لكل الذين يكتبون دراسات عالمية عن فن الترجمة.

 ما الذي توحيه لك الترجمات “الخفيفة” للأعمال الأدبية الكلاسيكية الكبرى، كما تتم في الولايات المتحدة الأمريكية، أو كما حاولت القيام بها بعض دور النشر بفرنسا أو إيطاليا؟
- لنأخذ نموذج عمل “حكاية مونتي-كريستو” لألكسندر دُماس. فهو أفضل رواياته. وهو رائع حقا. لكنه أيضا أسوأ أعماله من حيث الكتابة، فهو نص طويل وثقيل ويحمل تكرارات ومتكلف. وسبب ذلك معروف، إذ أن دُماس كان يُعَوض على السطر، وكان يتعمد بالتالي الإطالة للحصول على تعويض أكبر. وتحدثت عن هذا الكتاب لأنني كنت دائما أؤمن بإمكانية القيام بترجمة خفيفة له. وقد حاولتُ بالفعل، وبدأت بمائة صفحة، وانتبهتُ بسرعة إلى أن النص يظل ثقيلا، وذلك لكون النص كُتب بشكل سيء وليس لأنه طويل. ويبدو أمراً سيئاً القيام بالعمل نفسه بالنسبة لنصي “حرب وسلم” و”الفقراء”. وقد فهمتُ أيضا أن هذا الأدب الشعبي ليس مهما بشكل كبير في حد ذاته. وما يبدو مثيرا للإعجاب فيه، بالمقابل، هو انتاجه لأساطير. فقد صار مونتي-كريستو ألياس إدمون دانتيس أسطورة، وهو ما قام به سابقا هوميروس مع أوليس. ويتوجب فصل أسطورة ما وحياتها الدائمة عن تجلياتها في الأعمال الفنية. فإذا فصلنا شخصيتي إيما بوفاري وجولين سوريل عن سياقهما فسنجد أنفسنا أمام امرأة ورجل غريب الأطوار لا يعرف ما يجب أن يفعله. وإذا قمنا بالأمر نفسه بالنسبة لأرتغان أو مونتي - كريستو فسنجد أنفسنا أمام شخصيتين لهما حياة طاهرة. الجميع يريد أن يكون أرتغان أو إدمون دانتس، ولا أحد يحلم بأن يكون في وضع إيما بوفاري أو جوليان سورل. وهذا هو الفرق بين عمل أدبي كبير وآخر ينتج أسطورة.

الأسلوبية

أكتب من اليسار إلى اليمين بحكم أنني لست يهوديا ولا عربيا ولا يابانيا. ويمكن أن يُقال إن كتابة الرواية تفرض الانتباه للأسلوب، لكن ذلك ليس صحيحا بشكل تام، لأن هناك أيضا أسلوبا في الدراسة الفلسفية. ففي كتابة دراسة ما، يُفترض منكم اتباع خيط منطقي تحدده طبيعة القضية التي تعالجونها. وفي الكتابة السردية، لديكم الحق في أن تبدعوا، بل يتوجب القيام بذلك. لكن هذا السؤال يحيرني دائما. وهو يذكرني بالقصة التي حكاها ألفونس ألِيس عن رجل كانت له لحية عجيبة، وقد سألته امرأة يوما ما “هل تضع لحيتك، حينما تريد أن تنام، تحت شرشف السرير أم فوقه؟”، وقد أجابها الرجل: “لم يسبق لي أن فكرتُ في الأمر سيدتي”. غير أن الرجل لم يرتح، منذ اللحظة تلك، إلى أن انتهى بقص لحيته. وإذا أردتُ أن أجيب عن سؤالك فقد أنتهي بالتوقف عن الكتابة.
حاوره: فرانسوا بُسنيل - ترجمة: حسن الوزاني
عن مجلة “لير” الفرنسية - عدد يناير 2008


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%





 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni