أي قلب توقف عن الخفقان؟ لقد فقدت الحياة واحداً من أبنائها النادرين. والذين يعرفون فؤاد التكرلي شخصياً، والذين تعاملوا مع الإنسان المحتجب وراء شخوصه، الخالدين بدورهم في ذاكرة الأدب القصصي والروائي، لا يجدون أية مبالغة في قولي هذا. كان التكرلي، بكلمة واحدة، إنساناً مختلفاً. وأعني أنه كان واحداً من الندرة الذين حققوا هذه المعادلة الصعبة في تلك العصور: التوافق الفريد بين الإنسان والمبدع.
تعاملت شخصياً طويلاً مع فؤاد التكرلي، عبر اللقاءات النادرة في لندن ودمشق وأخيراً في أربيل حين أطل علينا شبحاً يتداعى، ولم أكد أعرفه، وهو يختفي في كرسيه كتلة من عظم. وفي كل لقاء، كان يثبت أنه لا يزال محافظاً على تلك الصفة النادرة، التي حققها بعد نضال قاس مع النفس.
لم يكن فؤاد التكرلي، وهو الكبير فعلاً، مصاباً بعقدة البغيضة التي أصيب بها للأسف كثير من مبدعينا" الكبار" وغير الكبار.
حين اتصلت به في فترة الإعداد لمجلة" أقواس" ليساهم بمقال عن تجربته الأدبية، لم يتوقف أمام التفاصيل قط، كما فعل كثيرون عبر أسئلة مواربة تثير التشكيك والتيئيس، بل فرح فرح طفل برىء بهذا المشروع الثقافي الجديد. وبعد يومين فقط، تسلمت مقاله بخط يده، رغم وضعه المرضي العصيب.
بعد أيام اتصل بي تليفونياً، لا ليسأل عن مقاله، بل عن المجلة، وإذا كانت ستصدر فعلاً ، وحين أجبته بالإيجاب، لم يصدق.
" لماذا يا أستاذ فؤاد؟ المجلة ستصدر، ومقالك الجميل يتصدرها".
" آسف جداً. ليس قصدي. ولكننا اعتدنا على المشاريع الفاشلة".
كنت استشرته حتى باسم المجلة. وكان لا يكتفي بالكتابة، بل يتصل تليفونياً بين فترة وأخرى. ومن هنا، فإن " أقواس" هي، بمعنى من المعاني، بنت فؤاد التكرلي الروحية، التي غادرها قبل أيام فقط من ولادتها.
فأي حزن!
وهذا ليس غريباً على فؤاد التكرلي الذي كان أستاذاً لكثيرين، حتى لمجايليه.
يذكر أستاذ آخر هوعلي الشوك، صديق عمر التكرلي، في مقالة تنشر في العدد الاول من "أقواس".
"بعد أن تركت العراق في 1979، أتيح لي، فورا تقريبا، ان أمر بتجربة شخصية (سأقول عاطفية) في برلين (الشرقية)، شجعتني على كتابة رواية. فكتبت عملا روائيا في غضون شهرين فقط.
فتملكني الغرور هنا، وخيِّل اليّ أنني سأستطيع التفرغ للكتابة الروائية. لكنني عندما عرضت المخطوطة على الصديق فؤاد التكرلي، نصحني بعدم نشرها.
لقد أخذ الشوك بنصيحة التكرلي، وتخليت عن فكرة التفرغ للكتابة الروائية.
بعد حوالي عشرين سنة، سيعرض علي الشوك مشروع رواية أخرى على التكرلي، الذي سينصحه، هذه المرة، بنشرها.
لم يكن فؤاد التكرلي أستاذاً كبيراً فقط، بل تلميذ كبير أيضاً. فهو لم يكف يوماً عن فعل القراءة، شعراً ورواية ودراسات، حتى توقف قلبه الكبير.
أي قلب كبير توقف عن الخفقان؟
|