تحامل وهو يخترق صفوف الجالسين حتى أخذ مقعدًا بينه وبين المنصة مسافة غير قصيرة، وقد تصاعدت إلى أنفه ـ ما أن جلس ـ زفرة ما لبثت أن عبأت خيشومه، غير أن إحساسًا بالاختناق بدأ يتصاعد حثيثًا حتى استبد أخيرًا بصدره، ومن ثم كان عليه أن يلقف نفسه لقفًا ، وفيما كان الوقت يمضي بطيئًا ممضًا كان جفناه ينسدلان دون أن يرمشان، فيما بدت عيناه مستسلمتان للحظة غائمة.
ـ الشاهد الأول " محمود عبد العارف ".
استفاق فجأة على صوت الحاجب لما تكرر النداء، ورفع جفنيه المجهدتين.. انتصب واقفًا ، بَيْدَ أن ساقه لم تكن تطاوعه لأن يبدأ خطوة واحدة، غير أن ألمًا خفيفًا كان يحس به منذ الصباح منبعثًا من كاحل قدمه بدأ يستعر الآن في رجله كلها.
ـ آه .......
كتم آهاته وأظهر تحديًا واهنًا وهو يسحب نفسًا شاردًا إلى صدره.. أحيانًا لا تطاوعه ساقه .. لا يعرف متى يتصلب مفصلها، ولا متى ستفاجئه بما لا يليق.. بدأ يعرج باتجاه المنصَّة .. ساق تطاوعه والأخرى تتأبى، بّيْدَ أن نصف جسده الأعلى ـ على ما بدا ـ كان مترنحًا بين المجاهدة والسقوط.. يجر رجله جرًا ، وفى لحظة أخرى كان يحجل، يخشى أن يتأخر في الوصول فيغتاظ القضاة، أو يتهمونه بالتلكؤ ، ربما لهذا ظل يجاهد ساقه وجسده، يزفر ما به من غيظ،وهو يهم بين عرج وحجل.
لم يكن الظرف مناسبًا لأن يتأمل وجه القضاة عن كثب، وقد اقترب من المنصة، وربما كان عليه ـ أيضًا ـ أن يجاهد عينيه اللتين رصدتا مساحة شاهقة من السواد الموشى بخطوط حمراء، ورؤوس ثلاث صلعاء تعلوها.
ـ هذه محكمة .. لها وقارها وهيبتها.. كلمات صارمة وصلت أذنيه ، بيدّ أنه لم يكن يفهم شيئًا يستوجب الكلام .. لقد جاء كشاهد عدلٍ، فما بالهم يتحدثون عن وقار المحكمة وهيبتها؟
ـ أنت نسيت أنك تمشي في قاعة المحكمة.. نسيت نفسك وأنت تمشي متراقصًا، وكأنك في عرس، أو لكأنك ها هنا في فَرح !.
كانت كلمات القاضي صادمة كالجريمة، ومهيبة كالمجهول، وفيما بدا وجهه متجهمًا ونظراته حادة، ارتعدت أوصال الشاهد.. تناسى ألمه الذي يستبد بساقه، وفيما بدا أيضًا أن بللاً بدأ يطفر من قماش بنطاله، وأن عرقًا غزيرًا بدأ يتصبب من جبهته، وفيما بدا أيضًا أنه على وشك السقوط، وقد عصفت بداخله عاصفة من الشؤم، وبدأت شجاعته التي يتوهمها تفر منه.
هو يعلم أن للمحكمة وقارها، كما يقر للقاضي بالتجلَّة، لكنه لم يكن يعلم أن مشيته جريمة، وأنها ـ إلى حد ما ـ تكسر هيبة المحكمة.
استجمع بقايا أعصابه المنهار، وانهمك يرتب بعض كلمات تليق :
سيدي القاضي : لم يكن الأمر كما تظنون.. نعم إنكم تأخذون بالظاهر، هذا صحيح ، لكنما الصحيح أيضًا أن الظاهر وحده غير كافٍ ؛ فما فهمتوه فيَّ لم يكن صحيحًا البتة، وأنني ما رقصت إلا حينما تألمت، ربما فهمتم ـ أيضًا ـ أنها حالة الفرح التي لا تتناسب وكآبة اللحظة، وإن كنت أراها مناسَبة لإطلاق الفرح أن أراني واحدًا من العدول، وأن ثمة عيوناً تتحرى العدالة، وأن أبثها شهادة حق في وجه الباطل والادعاء.. أن.. أن أخطو باتجاه الحق ريثما أنافح وجه الباطل، وريثما يتنحى ـ ولو قليلاًـ هاجس قديم يلح في رأسي بأن العدالة فوق الأرض وَهْمٌ كبير.. يقيني أنكم تفترضون للفرح مناسبة أخرى، بيد أني أراها حاضرة، أو ربما أنكم تفترضون رجلا غيري للفرح.. ليتكم أجبتم الآن من بدد الفرح في عينيّ ، لماذا هي الصفحة الآن سوداء ملبدة بالتجهم والصلافة، ولماذا أنتم الآن شبورة غائمة؟!.. لماذا هي اللحظة مالحة، ولماذا أنا الآن أبدو جريمة؟!.
لقد دفعني الزحام يومًا، إلى صدر عربة غاشمة، ولم يكن جسدي أكثر من أربعة أشبار، ولم تكن خطوتي أكثر من شبر واحد.. هكذا قيل لي، وقالو إنها مَرَسَتْ ساقي اليسرى قبل أن تمرق هاربة بين الدروب، وقالوا إن الشرطة فشلت في العثور على الجناة، أو ربما أنها لم تكترث بالتحري والبحث، وقالوا إنهم حبسوا أمي لأنها أهملتني، وقالوا أخيرًا: قضاء وقدرًا.
الحقيقة ـ سيدي القاضي ـ أنني منذ خمسين عامًا أتحمل عرجي، أو رقصتي ـ كما تفضلتم بوصفها ـ أتحملها بآلامها مع كل خطوة أخطوها .. أتحملها صابرًا، وما مطلوب من عدالتكم غير تحمل رؤيتها لدقائق معدودات، ريثما ينتهي هذا اللقاء.
التقارير الطبية التي معي تؤكد سيدي القاضي أنني مُعاقٌ، وأن مفصل قدمي اليسرى مثبت بمسامير بلاتين، وأنها لا تطاوعني عند المشي وأنها ...... .... .....
كان بإمكانه أن يقول كلامًا كهذا، وقد رتب في رأسه الكلمات، ورصَّ العبارات، كيف يبدأ، كيف ينتهي، كيف يكون الكلام موجزًا ومعبِّرًا ودالاً، وبليغًا وموحيًّا ومناسبًا للموقف والمقام.. كيف .. كيف .. كثير انشغالات بالكلام والأسلوب والمداخل والمخارج .. كثير اهتمام بالمضمون .. كثير صبرٍ وتأنٍ ومثابرة في الانتقاء والجمع والتوليف، غير أنه استجمع ما لديه من شجاعة مبددة، ومسح عرقه الطافر على جبهته،وجاهد خُنَّاق صدره كي يسحب نفَسًا عميقًا يكفي لدفقة اللفظ ، ويعين الصوت على الخروج من المخارج.. استجمع ما استجمع ومسح ما مسح وسحب ما سحب وفتح عينيه على آخرهما، وهمت شفتاه تنفرجان : سيِّدي .... لولا أن أذنه سمعت قولاً ـ يقول إنه كان ثقيلاً وشائخًا وصادمًا:
ـ يُحْبَس الشاهد أربع وعشرين ساعة لإساءته إلى المحكمة، على أن تؤخذ شهادته في جلسة قادمة.
( تـمـــت )
9/1/ 2008
|