أعترف _ بادئ ذي بدأ_ بأنني من أولئك الأشخاص الذين يؤمنون بأنه لا يمكن فهم النص الخطابي لشخص ما سواء كان سياسي أم غيره, من غير المرور بسياق الحدث الذي سبق ظهور النص ومهد لميلاده سواء كان باسلوب الخطاب الأرتجالي الشفوي أو المكتوب المنصوص في صفحات الأوراق التي تحمل هموم وأعباء الكثير من هواجس كتّابها وأحلامهم وربما هواماتهم أيضاً !!!
وسوف لن أطيل كعادتي المزمنة في مقدمات مقالاتي وأدخل مباشرة لقراءة تصريحين مهمين صدارا قبل فترة لشخصين على طرفي نقيض كبير ويخوضان حرب ضروس سوف تكون لنتائجها أثر كبير لا على مستقبل العراق فحسب وأنما على مستقبل المنطقة بأسرها أن لم أبالغ وأقول مستقبل العالم أيضاً.
التصريح الأول هو لأٍسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة الذي يقود الان أكبر حرب لطواحين الهواء مرت في تاريخ العالم .
التصريح الثاني جاء بعد أيام من التصريح الأول وهو للسيد نوري المالكي رئيس وزراء العراق الذي يقود الأن دفة سفينة العراق في هذا البحر الهائج المضطرب الذي يبدو أن تباشير سكونه وهدوءه بدأت تلوح في أفق العراق .
في التصريح الأول _ والذي كان رسالة من أبن لادن لأعضاء تنظيمه في العراق_ نجده ينصحهم بالأتحاد والأجتماع وعدم الفرقة ومقاتلة بعضهم البعض في العراق....وأعترف فيها لأول مرة بأرتكاب تنظيمه أخطاء في العراق ...
وبلاشك أن أي محلل سياسي حتى لو كان مراهقاً في عالم التحليل والسياسة سوف يجد الكثير من المعاني والدلالات التي تتجمع بوصلتها في جملة بسيطة هي أنهيار تنظيم القاعدة في العراق وتكسر عضامه وتهشم مفاصله, بل رأى بعض المحللين في خطاب أسامة هذا بدأ أعلان هزيمة القاعدة وتقهقرها قي العراق.
التصريح الثاني كان للسيد نوري المالكي في رسالته للمشتركين في مؤتمر اسطنبول, والذي جاء بعد أيام معدودة من تصريح بن لادن ,حيث بشّر الحاضرين بقرب الأعلان عن الأنتصارعلى تنظيم القاعدة في العراق على يد القوات الأمنية العراقية والعشائر العراقية بصحوتها الجهادية التي قادها في البدء الشهيد الخالد الشيخ ستار أبو ريشة في محافظة الانبار.
تصريح السيد المالكي بشأن قرب موعد الأعلان عن الأنتصار على تنظيم القاعدة كان ضروري ومحتوم بالنسبة لمن يريد النظر الى سياق المجريات المرسومة على أرض الواقع , حيث كان يجب أن يصدر من سياسي عراقي صاحب موقع سيادي كالاستاذ المالكي مثلاً تصريح كهذا من اجل تحقيق جملة من الأهداف وعلى مستويات مختلفة سياسية وأقتصادية وأقليمية وامنية وسايكولوجية وداخلية تتعلق ببعض القوى المسلحة التي تقول بأنها مقاومة ولاتستهدف غير المحتل...
فمن الناحية السياسية أراد السيد المالكي أرسال رسالة مهمة للأعضاء المشاركين في المؤتمر مفادها ان العراق يسير في الطريق الصحيح على الصعيد السياسي فهاهي سياسة الحكومة العراقية التي يتراسها _هو بالطبع _ قد بدات تشهد نجاحات على مستوى المصالحة الوطنية السياسية والتي يُعد أصطفاف العشائر مع حكومة المالكي وقتالها ضد تنظيم القاعدة أبرز تجسيد حي لهذه المصالحة.
ومن الناحية الأقتصادية فان المالكي رغب أن يُذكر الدول التي ترغب بمساعدة العراق واعماره ان هذا التنظيم الذي كان احد أهم معرقلي البناء والأزدهار ومُبسببي الفوضى في العراق سوف يندحر وسيُعلن المالكي بنفسه ذلك مما يعني فتح الطريق امام شركات هذه الدول لكي تدخل الى العراق وتشارك في اعماره واعاده بنائه من جديد.
وأما الناحية الأقليمية لتصريح المالكي فهي تكمن في أن تصريح الأخير سوف يستلزم هروب أعضاء هذا التنظيم الى دول الجوار الاقليمي , ولذلك عليهم أن ينتبهوا الى هذه الحقيقة ويكف بعضهم أو مؤسساته الدينية عن أرسال المقاتيلن الى العراق بحجة الجهاد ومقاتلة القوات الأمريكية في العراق لأنهم بالتالي سوف يعودون اليهم لكي يمارسوا العنف والقتل الذين مارسوه في العراق.
ومن الناحية الأمنية فأن لها بعدين خارجي وداخلي, فرئيس الوزراء العراقي بتصريحه هذا قد أوصل أكد للأخرين أن العراق سوف يمتلك قوة لايستهان بها في المنطقة بالمعنى الفضفاض لكلمة القوة , وعليهم الكف عن التدخل في شؤونه والقيام بدور الوصي سواء كانت ايران او سوريا او السعودية او غيرها, فالأنتصار على تنظيم القاعدة مسألة ليست بسهلة ولابسيطة ولاتستطيع أي دولة القيام بذلك وفقاً للشروط التاريخية والموضوعية التي كانت تتحكم في ظروف الحكومة االعراقية , وأما البعد الداخلي فهو موجه لكل المليشيات المسلحة التي عليها ان تكف عن رفع السلاح والقيام بعمليات تصفية على أساس طائفي لأن حكومة العراق بدأت تتحسن أمنياً وقوتها المسلحة بدأت تتعزز وتتطور وتنتقل من رد الفعل الى سياسية المباغتة والفعل الاستباقي.
وأما بالنسبة للناحية السايكولوجية التي كان المالكي يعزف ببراعة وذكاء على أوتارها فهي كانت موجهة لأعضاء التنظيم ولمؤيديه ومن تورطوا في أعمال العنف في العراق أذ ان تصريح سياسي وأمام كهذا سوف يقوم بتعميق الجراح السايكولوجية لأعضاء هذا التنظيم وتجذير الهوة النفسية بين أهدافهم وقضية تحقيقها خصوصاً كما قلنا بعد رسالة ابن لادن الجنائزية لأعضاء التنظيم الذي قرأ اعضاء التنظيم فيها الهزيمة مهما جادل البعض في محتواها ومضمونها.
وأما المضمون الداخلي الذي يتعلق بقوى المقاومة , فالمالكي كان من الذكاء السياسي بمكان بحيث انه قد ذكر الأنتصار على تنظيم القاعدة في العراق , وهو كان بمقدرته القول الانتصار على القوة المسلحة في العراق الا أنه لم يقل ذلك عمداً ووفقاً لتخطيط أستراتيجي وتكتيكي , فالرجل أراد أن يقول لهؤلاء الذين يحملون السلاح أن تنظيم القاعدة الذي كان يحتل محافظات كاملة بأسرها وهو أشد قوة منكم واكثر تسليحاً ومالاً قد انهزم وسنعلن عن ذلك قريباً , لذلك عليكم أن تبدأوا مع الحكومة صفحة جديدة وتدخلوا في العملية السياسية وتفاوضوا الحكومة وتلتقوا معها لتقف وتنفذ مطالبكم المشروعة وترفض وتستبعد مطالبكم الخيالية والغير مشروعة .
أن التصريح الذي أدلى به السيد المالكي بشأن القاعدة في العراق لم يكن _ في رأيي _ رداً ساذجاً وبسيطاً وأحادياً على رسالة بن لادن, بل كان رداً مركباً حمل مضمونات عديدة ورسائل شتى ودلالات متنوعة تتجاوز لعبة التصريحات السياسية الذي يمارسها بسخافة بعض السياسيين المراهقيين..
أن المسألة برمتها تدخل في فضاء رهانات الانتصار العراقي وارادة قوة الحق التي بدأت تنشق عن شرنقتها وتصحو من سباتها كالعنقاء التي نفضت عن رأسها غبار السنين. |