لم اسمع شيئا يمنعني من الوصول إلى البيت المهجور .
يتقول الاهالي ، بأقوال وقصص شتى حول البيت القديم .. لكني لم اُمنع صراحة من احد بالوصول .قررت لملمة شجاعتي والذهاب بمفردي الى البيت الواقع في أقصى الطرف الجنوبي من المدينة .
سكان المدينة ، الكبار منهم والصغار ، يتكلمون بشيء من الرعب وبعض الخيال واللامعقول مما يحدث في البيت ليلا وخاصة في ايام الشتاء الممطرة .
احدهم ، عجوز جليس المقاهي ورائد الحكايات الخرافية المهولة في المدينة ، ضحك علي وأنا اعد نفسي للوصول الى البيت واقتحامه . ضحك بشيء من الهزؤ وأنا اخبره نيتي . لم أبال بشيء من هذا لأني بصراحة تامة لم اسمع ما يمنعني وكل الذي صدر منهم سوى قصص لإحداث من خيالهم . ولم اسمع احدهم يردعني من الوصول .يبدو ان الأقاويل والإشاعات تنتشر كالنار في عيدان القش . ولكني ضحكت حينما سمعت قصة غريبة ظلت في مخيلتي فتحولت ريبة الاجتياح الى ابتسامة مفتعلة مني ..
يقول العجوز :
بومة كبيرة تخرج ليلا من كوة في سقف البيت وتعود بطفل او طفلين . بعد سنوات يتحول الأطفال الى طيور كاسرة .
لماذا تضحك ياهذا ؟
اضحك من خيالك المتعب ! كيف لطفل أن يتحول إلى طائر كاسر ؟
سترى بعينيك وستجد أني أتكلم بالحقائق لا بالأكاذيب !
كنت استعد للذهاب الى البيت المهجور كمن يستعد لاقتحام المجاهيل في البراري والجبال او في الكهوف المخيفة .. كنت اسأل نفسي :
هل سأقدر على فك الطلسم الذي عشش في عقول الناس هنا ؟
لا ادري ، ربما سأكون محررا للبيت أو فاتحا أو غازيا لا فرق ، المهم أني سأحصل على شرف المحاولة الأولى .
أهل المدينة ، رشقوني بنصائح وتعويذات ان اقدمت على فعلتي . امرأة قالت بشيء من الحسرة :
يا ولدي ستصاب بالعمى أو ستنتزع عينيك عنوة وأنت تدخل البيت !
الرجل جليس المقهى أكد بان البيت لم يدخله احد منذ أن تركه أهله قبل سنوات طويلة .. البيت مقفل ألان ، لا احد يجرؤ على فتحه .
لم تكن نيتي قبل ألان ، كما هي اليوم .. صرت أكثر استعدادا وانشغالا باقتحام المجهول الغائب عن الناس منذ تلك السنوات . كنت أتساءل عن ما يدور في مخيلتي عن خوف الناس من الدار المهجورة ! هل القصص وحدها أبعدتهم تماما أم أنها تهويلات لا صحة لها ..
جندت نفسي لمهمة اقتحام هذا العالم المهول ، مهول بحجم الحكايات التي قيلت عنه رغم أني كنت اشعر ببعض الخوف أحيانا عندما أتذكر تحذيرات المرأة باقتلاع عيني وإصابتي بالعمى يا للهول !
واصدق حكاية البومة .
فكرة الدخول للعالم الجديد ، لم تحسم بعد مع أني كنت الملم كل قوتي واشحذ همتي لنيل شرف المحاولة ..
جليس المقهى ، يسخر بكل كلمة انطقها وهو يستهين بقدرتي وقوتي .. أرد عليه بشيء من الريبة والحذر ، وتنتابني لحظات تردد اعرف أنها ستؤكد أقوالهم وتكهناتهم عني باني متخاذل !
البيت ، يضربه شعاع الشمس الباذخ .. أحاول الدخول واقتحام المجاهيل في وقت الظهيرة .. الشمس تذهب عني مخاوفي .
بخبث مقصود ، حدثني العجوز عن وقت الذهاب ولمحت عينيه الداكنتين تخبآن شيئا :
الذهاب في الليل يثبت صدق نواياك !
صدمت ، لكني ابتلعت صدمتي ولم اجبه وأومأت برأسي تأييدا لكلامه .
كانت ورطتي كبيرة وحيرتي اكبر وأنا اقبل بهذا الهراء .
ظل العجوز يغدق علي النصائح وأنا في كياسة دون حدود . لم ابد شيئا من الخوف أو التردد . ولم أرد على أية نصيحة .كانت ذهنيتي قد جفت تماما ولم اعد أفكر سوى بورطة اقتحام البيت في الليل ، هذا الليل الذي ترك في نفسي بصمة لم انسها أبدا حين فكرت بهروبي من الجيش في ليلة صيف مخيفة ، وكانت وحدتي في بطن الصحراء المترامية هناك بعيدا على الحدود .. كانت إجازاتنا الدورية مرة في الشهر يتم نقلنا بطائرة مروحية قديمة مستهلكة هدير محركها يصم الآذان .. فكرت بالهرب في جوف الصحراء يغمرني أمل الوصول إلى الطريق العام لكني دخت من صئي العقارب وفحيح الحيات وعواء ونباح ..لم أكن اعلم أن الصحراء مليئة بالحشرات والأفاعي والعقارب المميتة فيبس الدم في داخلي خوفا ورعبا ..سرت عدة أمتار اخوض في موج الرمال ، فأحسست أن شيئا التصق بحذائي وحاولت أن أفلته لكنه ظل متشبثا .. ركضت محاولة مني لنزع الشيء ، بعد ساعة عرفت انه عقرب بعد أن رايته يغادر كعب حذائي غير مبال بشيء ..
قررت بعدها العودة نادما تحف بي بركات السماء على بقائي حيا ..
العجوز الثرثار ، أثار في ّ غيظا هائلا وكنت أرى الترقب في وجهه وهو يطلق نصيحته باقتحام البيت ليلا .. وخيم عليّ حجاب كثيف من الأسرار لم استطع فكها .. البيت والبومة والأطفال المجنحين يالها من خرافات مخيفة .. لكنه فجأة سألني بلهجة اللائم :
وما سبب تلهفك على البيت المهجور ؟
واعاد سؤاله بفظاظة :
ما الحكمة من ذلك ؟
لم اجبه ، وحاولت تأكيد لامبالاتي بشيء من الترفع الذي أغاضه ، تحول كلامه لي الى أوامر يجب إطاعتها فراح يطلق تحذيرات مشفوعة بأشياء حصلت أو تخيل أنها حصلت ذات يوم في البيت وعادت قصة البومة والطيور الكاسرة الى الصدارة ..
أحسست أن الثرثار لا يرغب بنجاح مهمتي التي سترفع من شأني ..
كان احد الرجال الصامتين قد دنا مني وسرّني بقول لم اسمعه من قبل .. وبصوت أجش خفيض همس :
البيت اقتحم من قبل أكثر من مرة !
أطار كلام الرجل كل أحلامي وانهارت آمال فوزي بدخول المجهول وارتجف جسمي ..
لكني كنت أصارع سقوطي في اليأس وأقاوم انهياري ، فعدت مندفعا غير أهّاب بشيء ..
عززت هذه المسارّة من قراري وجرأتي .. منذ الغروب ، تجمع حشد الناس أمام باب الدار الخشبية .. أول الأمر ، الدهشة والترقب تحوم فوق وجوه الناس .. الثرثار أطلق تحذيره النهائي ، فيما رمت المرأة / التي أخبرتني بحكاية العمى / الناس بنظرة مريبة وهي تستعرض الوجوه المتحلقة بانتظار الفاتح ..
اتخذت قراري النهائي وسط دوامة الأفكار الدائرة في رأسي .. الناس تقف مبهورة برغبتي وبقراري الغريب .. عند ظلمة بدأت تحط على البيت وتغلفه ، تقدمت تحف بي الأنفاس
والدهشة ..
ركلت الباب بقدميّ الخائفتين ، انفلق دون عناء وهبت رائحة عفونة ورطوبة عمت فضاء الواقفين .. الظلمة ، حجبت الرؤية والاندفاع .. استعنت بمصباح يدوي صغير أعددته لهذه اللحظة فبدد قليلا من السواد .
تقدمت قليلا في ممر ضيق يوصل إلى الداخل ، فتلقفني عرير الصراصير وصرير الفئران ، ذهلني ما رأيت !
أجسادا معلقة على الحيطان ! ياللهول .
اهتزت شجاعتي وأنا أرى هذا القرف ..
تحركت قدمين ، فاصطدم رأسي بأشياء تتدلى من سقف صالة صغيرة تؤدي إلى حجرتين .. وجهت مصباحي عليها ، فتسمرت حين وجدتها عظاما آدمية تمايلت راقصة ..
تقطب وجهي ، ووجدت نفسي أحشر بين حائطين كل منهما مليء بالهياكل الآدمية الصغيرة المعلقة وتناهى الى سمعي أنين نعيق خافت ..
تقدمت نحو الحجرة اليمنى ، وجهت مصباحي على سقفها وحيطانها المليئة بالهياكل ، وعلى بلاط الحجرة اصطدم الضوء بعيون ملتمعة لبومتين أحداهما صغيرة مسجاة على الأرض في حين كانت الثانية الكبيرة تنظر لي بعين الافتراس .. |