ما علاقة اللغة الشعرية بالمعنى؟ وهل يمكن أن نفرق بين معنى شعري,ومعنى نثرى في ضوء علاقة المعنى باللغة؟
إن المعنى قد يكون ( شعريا ) ويمكن أن يكون (نثريا) أي فكرة ذهنية مجردة . ومقياس التفريق بين مستويَي (المعنى) عدم إمكان فصل ( المعنى الشعري ) عن لغته في القصيدة إلا بخسارة المعنى واللغة الشعرية معا ، بينما يمكن تقديم (المعنى النثري )– بشرح (القصيدة ) أو نثر معانيها – بغير أن نخسر المعنى أو اللغة ، لأن اللغة مع هذا النوع من المعاني مجرد قالب يمكن استبداله بآخر ، فمدار الفرق – كما سيتضح – يتوقف على نوع اللغة التي يتشكل بها (المعنى).
أدرك العرب القدماء – نقادًا أو متذوقي شعر – الفرق بين ( المعنى الشعري ) و ( الفكرة ) المجردة ، وإن جاء تعبيرهم عن هذا الإدراك إشاراتٍ لم ترتق ِ إلى مستوى (المعيار ) النقدي . ويمكن أن نجد مصداق ذلك في موقف الجاحظ الذي أنكر على أبي عمرو الشيباني استحسانه هذين البيتين :
لا تحسبنَّ الموتَ موت البلى فإنِّما الموتُ سؤالُ الرجال
كلاهما موتٌ و لــــــــكنَّ ذا أفظعُ من ذاك لذلِّ السؤال
وقد استحسن الشيباني المعنى ، وهو رائع – ولا شك – فالاستجداء أو السؤال أقسى على الإنسان الكريم من الموت لما فيه من الذل و المهانة ، ولكن صياغة البيتين جاءت بعيدة عما يتطلبه الشعر ، وهذا ما دعا الجاحظ بذوقه الراقي ، وحسه النقدي المهذب إلى أن ينكر على أبي عمرو هذا الإعجاب وقال رأيه المشهور "المعاني مطروحة يعرفها العجمي والعربي و البدوي والقروي ... وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير ، وجنس من الصياغة "، إذ لم يرَ في هذين البيتين شعرًا ، ولم يجد (المعنى الشعري) المنصهر بلغته،أو(اللغة الشعرية ) المشحونة بمعناها !
إن اللغة في البيتين أداة تقوم بمهمة ( التوصيل ) فهي تقيد المعنى وتضبطه بترتيب منطقي ، فليس فيها غير (المعنى ) و هو فكرة يمكن أن يعبر عنها نثرًا دون أن يخسر المعنى شيئًا،وليس ( المعنى الشعري ) كذلك بالنظر إلى علاقته باللغة ، إذ لا يمكن فصلهما ، فالعلاقة بينهما ليست علاقة الإناء بما فيه ، و إنما هي علاقة الشيء بذاته .
و يمكن تقدير الالتفاتة الذكية في تعليق عبد الملك بن مروان ،عندما أنشده الراعي النميري ، هذين البيتين :
أخليفة الرحمن إنّا معشر حنفاء نسجد بكرةً وأصيلا
عربٌ ، نــرى لله في أموالنا حق َّ الزكاة منزَّلا تنزيلا
إذ قال : " ليس هذا شعرا ، و إنّما هو شرح إسلام وقراءة آية " ، فليس في البيتين غير ( فكرة ) لم يستطع (الوزن و القافية ) أن يمنحاهما شعرية، لأن (الشعر) الذي لا نجد فيه غير ( المعنى ) المباشر الذي يمكن تقديمه نثرًا لا يستحق اسم الشعر .
و لكي يبدو الفرق واضحا بين ( معنى شعري ) و (معنى نثري ) لافتقاره إلى اللغة الشعرية التي تمنحه هويته الشعرية ، يمكن أن نتوقف عند هذا البيت للمتنبي:
ذكرتُ به وصلا كأنْ لم أفـُـزْ بـِهِِ وعيشًا كأنِّي كنت أقطعُهُ وثبا
و السؤال هو : هل يمكن نثر ( المعنى ) الكامن في بيت المتنبي بغير التضحية بالبيت نفسه ؟ لكأنّ الشاعر يريد القول : إن مرحلة الهناء مضت سريعا و تسربت فكأنها لم تُعَش أبدا ، بل يمكن أن نتوخى تعبيرا أجمل للإحاطة بمعنى البيت فنقول : إن الشاعر يقصد أن اللذة عابرة ، سريعة ، و السعادة ومضة تبرق في غيمة العمر لتنطفئ و كأنها لم تكن ! فهل تحقق (المعنى) الماثل في البيت بهذا التعبير ؟! إن في هذا البيت توتـّرًا نفسيا حادًّا ، ولفتة إلى معنى وجودنا الإنساني مشحونة بالشجن تجسد في صورة متحركة نابضة .. إن َّ الفعل ( ذكرْتُ ) مقترنا بذات المتكلم (الشاعر) يوحي ابتداء بالغياب أو الفقد ، وإلا فإنّ الواقع لا يكون ذكرى إلا حين يختفي أو يزول ، والشاعر لا يتحدث عن ( المكان ) مجردا ً ، بل عن (الوصل ) الذي تحسه الذات العاشقة ، وتعرف معنى اللوعة ، وعمق الألم حين تفتقده .. هذا الوصل الذي يعطي العمر معناه ولذته يمر بسرعة خاطفة ، وجزم الفعل ( أفوز ) فيه قطع للحركة ، لقد ( جُزمَت ْ) - أي قـُطِعـَتْ - تلك اللحظة من عمر الشاعر ، ونُفيت بعيدا عن لحظته الراهنة ولولا ( الذكرى ) التي تؤكد أنه عاش تلك اللحظة ، وفاز بلذتها لظن – لسرعة الزوال –أنَّه لم يعشها ، وهذا ما توحي به ( كأن ) التي سبقت الجزم.
ولا يزال ( المعنى ) يطوف بوجدان الشاعر متلبسا بعاطفته التي فجرتها الذكرى ، وكأنَّ الشاعر يحس أنه لم يعبر عن المعنى كاملا ، فيأتي عجز البيت لينهض بالكشف عن هذه الحركة النفسية المحتدمة في ذات الشاعر يجسدها باللغة الشعرية التي ( بَنَت ) الصورة و منحتها حركتها . وتبقى إشارة أخيرة إلى أن هذا البيت من البحر الطويل (فعولن مفاعيلن)، ولكن التفعيلة الأولى لم تأتِ صحيحة ًبل (مقبوضة ) بحذف الساكن الخامس ( ذكرْت ُ/ فعولُ ) ، فهل لهذا دلالة على المعنى الذي اشرنا إليه ؟ ويُلاحَظ أن هذا الزحاف حصل في الفعل الذي يشير إلى انقطاع ذلك الزمن وتحوله إلى ذكرى !
والسؤال المهم الآن هو : هل يقدم ( شرح ) البيت - أو وضع معناه بلغة أخرى-( المعنى ) نفسه الذي عبرت عنه لغة البيت ؟ يقول ماكليش في (الشعر والتجربة) : إن معنى القصيدة " شيء يتلاشى عندما تنتهي القصيدة ، ولا يمكن استرجاعه إلا بالعودة إلى كلمات الشاعر ، لا إلى كلمات الشاعر مستقلة ًبل إلى كلماته ضمن القصيدة ، فإن نحن بدَّلناها ، وإن نحن - بالرغم من الاحتفاظ بمدلولها كما هو – لفظناها بغير إيقاعاتها ، فإن َّمعناها سيتغير أيضا " ، ولا بد من الإشارة إلى أن هذا البيت يظل مفتقرا إلى القصيدة التي هو جزء منها ليكتمل لنا إدراك (معناه) الشعري بكامل أبعاده إذ يكتسب من قصيدته عمقا أبعد لأنه يتأثر بما قبله و يؤثر فيما بعده من الأبيات ، فالقصيدة كلها نص واحد، وهذا يستلزم أن يكون بين أبياتها تماسك لغوي ودلالي.
وخلاصة القول في الفرق بين ( المعنى الشعري ) و ( المعنى النثري) – الذي يجيء فيما يفترض أنَّه قصيدة – أن المعنى النثري يمكن التعبير عنه بأكثر من عبارة ويبقى كما هو ، ولكن " (المعنى الشعري) لا يُؤدَّى إلا بالصورة التي أرادها الشعر وبالتركيب اللغوي الذي اختاره ،بمعنى أنه كامن في اللغة ذاتها ولا يتحقق بغيرها . |