يقال ان احد فلاسفة اليونان (ديوجين)، شوهد حاملا سراجا صبيحة احد الايام حتى ظن العامّة انه قد جَنّ، فلما سأله احد تلاميذه عما يفعله بذلك السراج أجابه بانه يبحث عن الحقيقة....يا الله..يعلم ذلك الفيلسوف ان ضياء الصبح كاف لرؤية الاشياء، و لكن الحجب الكثيفة عن حقائق الاشياء قد تحتاج الى سراج! وربما اراد تنبيه الغافلين الى ما تخفيه الانوار البراقة احيانا من حقائق لا يفقهها الا ذوو علم....ربما!
مَن أولى برؤية حقائق الاشياء ان لم يكن المتعلم الواعي؟ بل و مَن اولى من المعلم حامل شعلة التنوير و الحضارة، و لو كان بصيرا، و قد نبهنا العليم الحكيم عز و جل الى ذلك بقوله عز من قائل "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (سورة الحج،آية 46).
ان تلكم الاشادة الجليلة بذوي القلوب المبصرة بنور العلم و الايمان (وهما صنوان لا افتراق لاحدهما عن الآخر)، تستدعي ان تكون تلك الفئة احرص ما يكون على توخي اقصى درجات الدقة في كل سكنة و حركة كيما تتجنب الوقوع في الزلل و الغفلة. ولو كان الامر مقتصراً على خسارة تلحق بالمخطئ ذاته لهان الامر و هان اصلاحه...و لكن جليل الخسران ان تتبع الفئات غير المتنورة او بسيطة التعليم خطوات اولئك اقتداءاً و استرشادا. و قد أشار رسول الرحمة عليه و على آله الطاهرين صلوات الله و سلامه، الى المسئولية التي يتحملها قادة القوم و علمائهم عند الزلل بقوله " من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها الى يوم القيامة"... الله أكبر، الى يوم القيامة؟ فكم من الخطايا و الاثقال قد يحملها العالم او المعلم اذا أخطأ؟
قد يكون من الضروري، و كي لا نغرق في العموميات، سوق حدث حقيقي تصدق المقدمة أعلاه عليه. و لا اجد هذه الايام أصدق من موضوع مطالبة معلمي العراق الاجلاء بزيادة رواتبهم "أسوة بأقرانهم في كردستان".
من نافلة القول ان لا يستحق احدٌ (و المقامات محفوظة ان شاء الله) التكريم و سخاء الجزاء اكثر من المعلمين (بشكلهم العام). فهم ورثة الانبياء (و ما كان الانبياء الا المعلمين الاوائل ضمن مجتمعاتهم)،و الاوصياء و لهم الفضل في اي بناء ضمن البنية المجتمعية. و قد عانت شريحة المعلمين من العاملين في مدارس العراق بالذات (و حتى معاهده و الجامعات)، من التهميش و شحة المردود المادي و التحقير ما عانت طوال حقب طويلة، بعد فترة الثمانينيات خاصة. ففي حين كان المعلم قبل ذلك من علية القوم احتراما و تبجيلا و ذو مردود مادي لا بأس به يسمح له في كثير من الاحيان بالسفر لفترات معقولة خلا العطلة الصيفية (تشهد حارات تركيا و اليونان و يوغسلافيا بذلك)، و في حين كانت بنات المحلة يزهين تيها على صويحباتهن بان ام المعلم (الافندي) قد اختارتها كنّة، انقلب الحال و صار المعلم من المشتركين دائمي السفر في الكيّات، و صار الافندي رمزا للعازب المذموم، لا تطمع بنيله الا من فاتها قطار الزواج (ظل رجل ولا ظل.....) و عن حال المعلمات حدّث و لا حرج.
الان و قد زالت غمّة حكم الرعيان اللذين ما نقمنا عليهم اصلهم و لا قوميتهم و لا مذهبهم (ان كان لهم مذهب)، لا و الله، و انما هي فعالهم و ما حال معلمينا الا غيض من فيض... و استبشر الجميع بأن سيأخذ كل ذي حق حقه.
هنا السؤال الخطير...ما هو ذلك الحق؟ كيف؟ كم؟..... بمعنى : ما هي حقوق المعلم؟ ان كانت مادية، فكيف تحقيقها؟ و ان كانت راتبا، فكم يستحق المعلم؟
لست أدعي العلم بجواب الاسئلة الخطيرة تلك، بالشكل الشافي، و ان كانت لدي تصورات احتفظ بها الى حين...و لكن، الموضوع المهم، هل طالب معلمونا بحقوقهم بشكل صحيح؟ المنطقي أنهم أولى الناس أن تكون مطالبتهم صحيحة عقلانية و ان تستند مطالبهم الى أسس علمية، و مَن غيرهم بذلك أولى؟ بعيدا عن تسييس الموضوع و بعيدا عن توجيه الامر (باياد خفية) وجهة لاتخدم الا اغراض ثلة من ال....، و الطامة الكبرى الا يتنبه حملة مشعل التنوير الى تلك الاغراض.
لقد رفع معلمونا (الذين أتشرف بزمالتهم) شعاراَ خاطئا خطيرا لمطالبتهم بزيادة رواتبهم... أسوة بمعلمي كردستان...
ان احدى حسنات النظام الفدرالي (و هذه ليست دعاية للفدرالية فلكل حسناته و العثرات)، ان تكون للحكومة المحلية فسحة من التصرف بحصة الاقليم بما يخدم ابناء الاقليم و حسب خصوصيات ذلك الاقليم.
ببساطة، يتم تجميع موارد Resources مختلف الاقاليم في الخزينة المركزية مع احتفاظ كل اقليم بنسبة يتفق عليها من موارده. بعد ذلك يتم توزيع تلك الموارد (بنظام معين يسمى الميزانية Budget، عسى الله ان يعين نوابنا الحجاج على المصادقة عليها، آمين) على جميع مفاصل الدولة بما فيها من اقاليم و كيانات.
اذن و الحال هذه و بسبب حصول الاخوة الكرد على فيدراليتهم و اصرار بقية الامة العراقية على ابقاء موضوع الفيدرالية –علكا- للمضغ تارة، و الشد و الجذب تارة اخرى (و هذا حق لهم لا جدال فيه)، فقد امتلك الكردستانيون ما لا يمتلكه الاخرون. و عليه يصبح للمعلم في اقليم كردستان نصيبان، واحد من خزينة جمهورية العراق مساو تماما لما يتقاضاه المعلم في – المشرح و سوق الشيوخ و حصيبة-، و آخر هو ما ترتئيه حكومة السيد نجرفان بارزاني من حصة الاقليم...و هذا و الله حق لا أرى فيه مرية و يحصل فيه كلٌ على حصادِ زرعه. هذه حقيقة يتوجب على المعلم ان يكون اول من يراها و ان لم يفعلّ (فعليه العوض و منه العوض).
لقد كان الاولى المطالبة بزيادة الرواتب مراعاة لارتفاع تكاليف الحياة و قبلها تكاليف احتفاظ المعلم بتوازنه العلمي و الاجتماعي، و هي من اهم مواصفات المعلم الناجح. فليس مقبولا و لا صحيحا اصلا، ان لا يكون المعلم رائدا في الاطلاع على احدث المصادر و المطبوعات و التقنيات و التجارب العلمية و العملية. و ليس مقبولا و لا صحيحا ان لا يكون المعلم القدوة و المثال في المظهر و الشكل الاجتماعي. و كل ذلك يتطلب مبالغ ليس بمقدور الرواتب الحالية الوصول لحافاتها الدنيا. فلم الخجل و لم الخوف؟ اليس هذا افضل من المطالبة فقط بالتساوي مع رواتب قوم قد منّ الله عليهم بمن ينصف بعضا من حقوقهم، او حتى حصلوا عليها ب(طلعان الروح)...سيّان ليس هذا موضوعنا.
ان لم يكن المعلم أول من يعرّف الاشياء بمسمياتها الصحيحة، و ان لم يكن المعلم أول من يطالب بحقوقه بشكل صحيح و تو جيه الامور وجهتها الصحيحة..فمن؟ |