** ما يوّحد قصائد باسم خضيّر المرعبي في تنوّعها, هي اللغة الهادئة التي تُفصح عن طاقة وفورة حياة. أي أنها كالجمرة الباردة, كالحياة في قلب زهرة تُعلن عن نفسها بحرارة ودون صخب, من خلال النمو الطبيعي في هيئة ولون وصفاء الناتج الإبداعي النهائي, الذي هو بالنتيجة تفاعل عنيف وهادئ, تفاصيله غير مرئية. والميّزة الأساسية لنتاج الشاعر القوة التعبيرية للغته. يتجلّى ذلك في نموذج فريد يعطي فيه الشاعر عدداً من الصور المختلفة لمشهد واحد, كلّ تلك الصور تتمتع بذات القوة التأثيرية, بل إنّ التكرار في وصف المشهد الواحد يُحسب لصالح القصيدة, دون أن نهمل أنّ هذا الإسلوب ذاته استخدمه العديد من الشعراء في عملية استعراض لغِنى القريحة, لكنه في قصيدة المرعبي يخدم المعادل الموضوعي لها, أي أنّ القصيدة تتحرك نحو اكتمالها من خلال تكرار المشهد بصور فلسفية متنوّعة وثرية. التكرار هنا هو الحيرة, حيرة الشاعر, حيرة اللغة, حيرة وجه ومرآته, حيرة الإنفصال والتغرب عن الذات ثمّ التوحّد معها, أو حيرة الصراع بين الملامح وصورتها, وربما الحياد في المرآة. القصيدة هي : وجه في المرآة
غالباً ما يحدث
حين أنظر في المرآة
كأنّ وجهاً آخر
هو الذي يطلّ
محاولة ثانية:
أنظر في المرآة
فإذا بي
أرى أني لست أنا
ومحاولة ثالثة:
أنا وجه أول
ينظر إلى وجه ثانٍ في المرآة
وتفيض محاولات الشاعر في تقليب الوجه وصورة الوجه في مرآة ثابتة, ليصل إلى صورة غاية في الإيجاز والإبهار, وفي تحريك أخّاذ لانتماء الوحه أو الانتماء اليه:
وجهي في المرآة
ضيف علي
وذروة الإبداع في الصورة الأخيرة هي فكرة الإنتماء, تداخل هذا الإنتماء وانفصاله في لغة قوية هادئة وموجزة. حيث ربط الشاعر صورة الوجه بياء النسب وفصله عن ذاته في الجملة التالية. لم يقل وجه في المرآة, إنما قال وجهي في المرآة, ليُخبر عن المبتدأ بأنه (ضيف).
ليست ميّزة المحاولة هنا في الصورة, بل في التباس العلاقة بين المعنى والمبنى في القصيدة, على الرغم من وضوحهما. هذا الإلتباس يُعدي المتلّقي, والحيرة تقود إلى التفكير ومحاولة تفكيك المقطع (محاولة الشاعر الجديدة لتقديم وجهه في المرآة). المتعة الفكرية في هذه القصيدة ليس التفكيك الدقيق, بل في اكتشاف الآصرة في معادلة الوجه والمرآة, لأيهما ينتمي وعن أيهما ينفصل, وأيضاً بمقدار قوة الآصرة, ومن أي مشيمة تتغذّى القصيدة ويتحرّك دمها, من الوجه أم من الصورة. الآصرة محسوسة فقط, لكن الإرتباط ملتبس. على أيّة حال فالقصيدة تحتوي على ثمان محاولات وثمانية احتمالات. ونفس العدد من العلاقات في حركة متتابعة دائمة.
الإحتمالات في قصيدة هاملت تأخذ نمطاً إبداعياً آخر, فالإحتمال هنا فكرة صعبة المراس, وخيال درامي يلعب على متوالية زمنية لاتنتهي . تطلق هذه المتوالية الفكرة المتمثّلة في خلود وانتشار الأعمال الأدبية الكلاسيكية العظيمة رغم أنّ جسم القصيدة محدود لغةً, لكنّ فكرة التخيّل فيها متواصلة أبدية مادامت هناك حياة. القصيدة هي المشهد الذي لم يُفصح عنه شكسبير كما يقول الشاعر, تصوّره القصيدة جاثياً على ركبتيه متوسّلاً أن يُنهي مهزلة خلوده لأنه سيحيا ويُقتل في أزمنة عديدة وفي كلّ اللغات, راجياً أن يتركه يرقد بسلام. لكنّ هاملت سيظلّ أبداً يتقلّب ويفكر في كتب لم تخطر لغاتها على باله. الفكرة هنا تقترب من قصة مقتل طفل قروي في انفجار لغم زرعه جندي في الحرب العالمية الأولى قبل قرابة تسعين عاماً. الحرب انتهت وأصبحت تاريخاً, لكنّها مازالت تفتك بضحاياها, او المجرم مات لكنّ أداته فاعلة وحيّة. وكنتيجة تقول القصيدة (هاملت):
غير أنّ المؤلف لم تأخذه أيّة رأفة به
وترك الأنصال المسمومة تخترقه
الشاعر أيضاً لم تأخذه أية رأفة بهاملت وصوره المتكررة إجتماعياً حين كشف عن هذا الإحتمال والمصير المفجع المتكرر إلى مالانهاية.
ليست الصورة وحدها في ثرائها وتنوّعها هي ما يميّز قصائد المرعبي, وإنما نجد هذا الثراء وهذا التنوّع في فكرة كل ّقصيدة, بل إنّ هناك حركة في الفكرة نفسها واكتشافاً جديداً في كلّ مرّة. ربما يختلف إنعكاس الفكرة الواحدة وتأثيرها حسب المتلّقي, خاصة إذا تميّز هذا المتلّقي باستقبال فكرة القصيدة بأداة تحليلية غير مألوفة. فالمرعبي يمكن أن يوصف بأنّه شاعر الإيغال في غابات الصوّر, وقصائده ذكية تتوالد فيها ومنها الأفكار.
نموذج آخر من نتاج الشاعر هو قصيدة (ديكتاتور), سهلة التحليل وبسيطة البناء والفكرة, وهي قصيدة قصيرة, لكنّ المدهش فيها ثقل واتساع المفارقة.
بغرور لا حدّ له, يمشي
وبقنبلة نووية
ودائماً يكرر
جاداً أو هازلاً
إنها مجرد سلاح شخصي
قصيدة التدفّق
على خلاف قصيدة ديكتاتور التي تبدأ بمشهد متحرّك ينتهي بمفارقة, هناك قصائد تبدأ بصورة ثابتة. ليست جزءاً من فيلم أوحياة أو ذكرى, وإنما صورة واحدة مستقلة, وحين تتململ دماء الفكرة, تدبّ الحركة في لغة القصيدة لتتحوّل إلى حياة أو أسطورة, وكنموذج لقصيدة التدفّق قصيدتا : (صورة شخصية) و(الغرفة التائهة). ففي الأولى يبدأ الشاعر بالتعريف بالبطل:
تحدّرت من صلب زورق
الشراع علامتي الفارفة
ثمّ يشرح ما يحبّ, وما يلتقفه قلبه, ليعود بالجملة الأولى من القصيدة مقلوبة بتأخير الفعل لتصبح (من صلب زورق تحدّرت). وتبدأ فورة القصيدة كولادة ينبوع, الجملة تعطي ذات المعنى الأول, لكنّ الإنفعال يتغيّر تماماً من الهدوء إلى التوثّب, هنا تكمن براعة البناء الإنفعالي للقصيدة. أتساءل مغتبطاً كيف يمكن أن نصف شاعراً يحوّل الهادئ إلى ثورة بمجرد أن يقلب جملة بتأخير فعلها فقط, دون أن يغيّر فيها حرفاً واحداً, يرفع فيه صوت القصيدة إلى أعلى درجات الإنفعال المتوعّد, وكأنه يقول, إنّ مادة النسمة العذبة والعاصفة الهوجاء واحدة هي الهواء. لنكمل القصيدة ونرَ :
من صلب زورق تحدّرت
متدفّقاً أجئ
كأني شعبٌ بأجمعه
شعبٌ
حين يغضب
يحبّ
ويكره
القصيدة التالية وهي (الغرفة التائهة) تتفتح على مشهد داخلي في غرفة, وخطى مرتبكة وتوّقع لأشياء كثيرة مبهمة تحدث, ثمّ يقدّم مثالين عليها, برقاً أو عاصفة عارية. بهذين المثالين تنطلق القصيدة من مشهدها الداخلي إلى فضاء حياتي أرحب, لتجوب شوارع وبحاراً تعصف بها الحياة, والعاصفة عبثت بكلّ شئ, ثمّ يصوّر شجرة تستلقي على الطريق, وأطفالاً يلوذون بأمهاتهم, ربما سيارة مسرعة كحيوان فالت من الأدغال تحطّم مرآة دمي. صورة الموت هنا ملفتة عنيفة وعارية (تحطّم مرآة دمي). تهدأ القصيدة بعد ذلك بشكل مفاجئ في تأمّل شاعري :
أن هذا الدم الذي سكّه الحنين
طوال عثرات القلب
وبشكل مفاجئ أيضاّ تواصل القصيدة فورتها وصخبها لتعبّر عن توقّعات موت أخرى, (مطواة عرضية تقطع الطريق والموعد إلى المقهى, قاتل يكمن في الظلمة أو طلقة قنّاص), ثمّ تعود الفكرة إلى هدوئها الأول, ويعود الشاعر إلى غرفته التائهة يتوقّع فيها نظرة طائشة من عيني ساحرة.
يمسك باسم المرعبي بلجام قصيدته.ويخرج بها من المشهد الداخلي إلى مشهد خارجي صاخب مليء بصور مفزعة. يهندس هوسها ويثقلها بتوقّعات مريرة ثمّ يعيدها إلى المشهد الداخلي ذاته وإلى هدوئها المتوجّس.
أخيراً
-
لا يمكن للقارئ إلاّ أن يتوقّف عند كلّ قصيدة من قصائد هذا الشاعر. يمعن النظر في صورها وأفكارها, في هدوء لغتها وقوة هذه اللغة التعبيرية وبساطتها وخلوّها من بخار وغيوم الفنتازيا, وكذلك خلو الفكرة من الإبهام وتمتعها بذكاء واضح هو هويّة القصيدة , لذلك تحتاج القراءة إلى تتبّع نبض كلّ قصيدة على حدة. والقصيدة ذاتها تعين القارئ على حلّ معادلتها ولا أقول فكّ رموزها. فليس ثمّة مجاهيل في لغة الشاعر, لكن هناك احتمالات ومفارقات عديدة. ولأن القصائد تشترك بعامل اللغة فقط, فلا مناص من النظر إلى القصيدة كمعلم متفرّد مستقل, ولا مناص من جمع (ولا أقول انتقاء) نماذج من قصائد المرعبي ودراستها لإعطاء كلّ فكرة حقّها, وتلافي المرور على عدد كبير من القصائد مرور الزائر الكريم.
مع ذلك لنسقط بعض الظلم على بعض قصائد الشاعر بالمرور عليها ببعض الوصف الموجز تلافياً للإطالة, كقصائد :
- خيال.. قصيدة قصيرة, يحصر الشاعر الخيال في قمقم المحبرة, وحين ينثره يزعج الحيوات النائمة في قلمه. لم أقل شيئاً من عندي, وإنما نسجت هذه الإشارة من جسم القصيدة نفسها. خيال هي قصيدة المشهد الداخلي.
- أفريقيات..قصيدة قصيرة أيضاً تماماً كقصيدة خيال, لكنّها قصيدة المشهد المفتوح, حيث تبدو خطوات النساء الفارعات غابات كاملة.
- خواتم الساحرة..خمسة عشر مقطعاً. خواتم تضي الوقت الذي يُحصى فيه وجيب القلب. أحجارها بلون عشب جديد مهيء لاستقبال دم جديد.
- قلب.. قصيدة المفارقة. القلب الذي يبدو شاحباً كصحراء, هو وردة أعمّ من الرمال.
- ذكرى صديق أسمه حمزة عبود.. قصيدة تصف أماني غريبة للصديق, الوحدة, البيت الفاره, موت الزوجة, الإنصات إلى الإبنة وهي تعزف على بيانو لامع. لكن الحرب تمرّ على كِسر الأحلام, وتحوّل حمزة عبود إلى طيف شارد. القصيدة ذاتها تتأسس وتمرّ كحلم.
كلّ واحدة من قصائد الشاعر المرعبي تملك آفاقاً ورؤى جديرة بتأملها والدخول في عوالمها. |