عندما كنا في رحاب فترة المراهقة ، و كنا نسلك طريقنا نحو المدرسة ، نسمع عبارات الاعجاب والتودد تتساقط على مسامعنا من أبناء الجيران المتناثرين كحبات اللؤلؤ على إمتداد الشارع ، فنرقص في دواخلنا بفرح غامر ، حيث نرى أنفسنا في عيون الاخرين ، وترانا نمشي كالسراب في الصحراء ، بخفـّين طائرين.
هكذا كانت مشاعرنا البريئة تتكون لتولد مع نضوجنا.. كم هي جميلة مشاعر التقبل والحب ، هذه المفاهيم التي للأسف لانجدها بين أبناء مجتمعنا بمفهومها الواسع ، بسبب الظروف العامة من جهة ، ونظرة الأفراد نحو مفهوم الحب وتقبل الاخرين .
فالكبير لايعي أحيانا ً أهمية هذا الجانب ، فتأخذهم أفكارهم السوداء الى أبعد مدى لسوء النية التي قد يصلوا اليها ،.. والحب لايعني الجنس ، بل يحمل في طياته كل عناصر الأبداع ويزيد الثقة بالنفس ويدفعها لتحقيق أهدافا ً أكثر رقيا ً وأسمى منزلة ً، وكثير من الأمهات لا يعلمن أن مجرد تقبيل أطفالهن بشكل متكرر وأستخدامه كأسلوب في التربية ، سيسهم هذا الأمر في نمو قدراتهم العقلية والأبداعية ، إذ يُعد إشباع حاجة الحب من أساسيات النهوض بالنفس الانسانية ودفعها الى الأمام .
إن مشاعر الحب والتقبل لاتقتصر على مرحلة معينة ، بل يحتاجها الانسان منذ لحظة ولادته وحتى مغادرته الحياة ، وهي على عكس مشاعر الكراهية المنفرة للذات ، وغالبا مايظهر هذاالشعور ، وبشكل أكيد لدى الكاره وليس المكروه ، وذلك يعني أن الكاره قد أوقع نفسه في شرك التفكير بالسؤ للغير ، تاركا ً لحظات الحب والفرح تهرب من حياته ، وكما يقول (برتراند راسل)" هم من بوسعهم أن يحيوا سعداء ، مالم يكرهوا أشخاصا أو أمما أو مذاهب ". إن الكراهية كالنار التي تحرق كل شئ أمامها ، فهي لا تدع فرصة لجمال الحياة أن ينتشر ويملأ العالم من حولنا ، ونحن كمجتمعات شرقية بحاجة ماسة الى الشعور بالحب والى تقبل الآخر ، وقبل كل شئ تقبلنا لأنفسنا ، فلا يمكن لأحد ٍ أن يحب آخر دون أن يمر بمحطة حق النفس في المحبة.
إن للحب وجوها ً متعددة ً أهمها ، هما الحب الأبوي والحب الرومانسي ، ويختلف الحب الأول عن الثاني بأن ليس له ذلك المضمون الجنسي الذي يملكه الثاني ، وعلى الرغم من ذلك فأنهما يشتركان بعناصر متعددة في صورتهما المثالية ، ومنها الأيثار والتسامح والشعور بالأمان ، ويجوز لنا القول بأن الأطفال الذين لم يحظوا بالحب الأبوي ربما يواجهون
صعوبة في إظهار شعورهم بالحب تجاه الاخرين ، ويعزى ذلك الى
صعوبة هؤلاء الأشخاص في توجيه الحب نحو أنفسهم أولا ، فالوالدان اللذان لايشعران أولادهم ببعض المحبة المشروعة ، لايمكن لهؤلاء الأبناء أن ينتجوا مشاعر الحب ، ففاقد الشئ لايعطيه ! .
إن الحب حاجة لكل الاعمار ، لذلك على الوالدين أن يدعا مشاعر الحب تتدفق لتملأ نفوس الصغار والمراهقين وحتى الأبناء الكبار من سيل المحبة الوالدية ، .. إن الحب أداة سحرية ، وعلى الوالدين إستغلال فائدتها في توجيه سلوك الأبناء السيء ، وتحويله الى سلوك مقبول إجتماعيا ، وخاصة مع الأبناء المراهقين الذين يعيشون حالة عدم الإتزان العاطفي بفعل التغيرات البايولوجية والنفسية التي يمرون بها ، وجرعات من الحب ستسهم في توجيه هذه المتغيرات الى الوجهة الصحيحة ، وتجنب الوقوع في مطبات الحياة الكثيرة .
وعندما يشعر المراهق أن هناك أناسا ً يحبونه ، فأنه يدرك أن هذه المحبة تأتي من الثقة الممنوحة له ، وتتحول هذه الثقة الى عهود وأتفاقيات بين المراهق وذاته ، تدفعه الى ممارسة السلوك الجيد الذي يظهره أمام نفسه وأمام الآخرين بالمظهر اللائق ، فتنمو لديه مشاعر الرضى الضرورية للتغيرات الحاصلة له ، وتصبح مشاعر الحب ، كدفـّة السفينة في قيادة مشاعره الهائجة نحو برّ الأمان ، وهذا ماتؤكده مقولة (أوسكار وايلد) "عندما تحب إنسانا ، فأنت تضع بداية ً لقصةِ حبٍّ ستمتد مدى الحياة ".
الا أن هذا الأمتياز للحب ، لايعني ترك الحبل على الغارب ، وكلمة (لا) هي أيضا نابعة ٌمن نفس مصدر الحب ، فالطفل من الممكن أن يقع في الخطأ ، وهذا أمر طبيعي بحكم خبرته المحدودة تجاه مغريات الحياة ومفاتنها ، فيكون من الواجب علينا أن نوصل مفهوم كلمة (لا) الى أبنائنا بما يخدم مسيرة حياتهم ويغني ذخيرة خبراتهم نحو هذه الحياة .
إن الحوار المتواصل بين الآباء والأبناء المغطى بالحب النابع من الأهتمام والاحترام المتبادل بين الطرفين سيسهم في تبادل الأفكار والآراء والمخاوف والشكوك بحسن نية ، وتتحول العلاقة الوالدية الى علاقة صداقة متينة بين الأب والأم وأولادهما ، فتنهار سدود الخوف وحواجز الشك بينهم ، لتبنى بدلا عنها ، جسورا ً من المحبة والثقة التي تجعل الأب ممتنا ً من تصرفات إبنه بالشكل الذي يتناسب مع ما قدّمه له من خبراته المتراكمة ، وتجعل الأبن بالمقابل ، جنديا ًهماما ً مؤمنا ً بما يريده وما يتوقعه الآخرون من إنجاز يُحسب له ... |