حب وحرب، الدراما التلفزيونية التي انتظرناها بفرح كبير، وتوقعنا أن تنصفنا، نحن فقراء الغربة من العراقيين الذين ينظرون إلى أحذيتهم ويتعثرون بارتباكهم الحيي حين يمرون على رصيف ينهض عنده فندق من فنادق الـ (خمس نجوم) بهيبة وجمال أخاذين وكأنهم أمام إمبراطور من الذهب والرخام والنور. توقعنا ونحن ننتظر هذا العمل الفني أن يكون رسالة حب من فنان جميل مثل قاسم الملاك يحمل رداً غزيراً وجزيلاً على ذلك الشوق الذي حملناه في نزهتنا المُرّة التي زادت على ربع قرن حين غادر بعضنا العراق وأجبر البعض الآخر على مغادرته، ضانين أننا من أغنى أغنياء العراق لأن زادنا لم يكن غير ثروة من الحب، خصصننا بها إضافة إلى الفنان قاسم الملاك نفسه رموزاً وشخصيات ثقافية وعلمية وفنية رسمت حياتنا ولونت فردوسنا المطرودين منه. ولا بأس من أن أشير إلى بعض أسماء هذه الرموز والشخصيات، فقد أحببنا جعفر السعدي، رضا علي، خليل الرفاعي، سليم البصري، حمودي الحارثي، ويوسف العاني، عبد الصاحب شراد، عبد الجبار الدراجي وناظم الغزالي. وكان لمؤيد البدري وكامل الدباغ، والعلامة مصطفى جواد وتلميذيه طراد الكبيسي وعناد غزوان وكذلك إبراهيم السامرائي نصيب من منجم فرحنا الكبير الذي يتسع ويثرى كلما طالت قائمة هؤلاء المبدعين ليصل عددهم عدد شعر الرأس أيام الشباب وليس الآن الذي شاب ثلثاه وتساقط الثلث الباقي منه. لكن المفاجأة أن قصة (حب وحرب) لم تنطوِ إلا على سخرية مُرّة وحكم متسرع غير مدروس وعقوبة جماعية لا تستحقها الأكثرية من محبي الفنان وأبطال عمله الجميل.
لعل فناننا لم يشعر بتلك الآصرة القوية، أو أن ما نحمله لم يكن سوى حب من جانب واحد، وفي الحالين فإن خيبة أملنا كانت مؤلمة. ليس من العمل ذاته، بل من الفكر الذي قدمه هذا العمل.
اعتراف لابد منه
ليس للمرء إلا أن يعترف بأننا كعراقيين كنا بحاجة ماسة لأن نشاهد دراما تلفزيونية جديدة، حقيقية وأصيلة تروى بعض عطش قديم وتعوض بعض حرمان وانقطاع طويلين عن مشاهدة فنانينا يجتمعون في عمل اجتماعي عراقي لنوصل آصرتنا المقطوعة قسراً عنهم وعن إبداعهم ربع قرن من الزمن ويزيد. كانت تلك الحاجة نفسية واجتماعية لا تحتمل الصدمة، كانت حاجتنا إلى ذراعين مفتوحتين خصوصاً من مبدعين أحببناهم جيلاً بعد جيل واحترمنا ما قدموه لنا وانتظرنا المزيد. هذا ما كنا نحتاجه من فناننا الملاك وفنانتينا الربيعي وفناننا المتميز (الجديد) علينا بهجت الجبوري والمخرج جمال عبد جاسم، وليأخذ أبطال العمل منا ما يريدون، إلا ما يتعلق بضمائرنا، لا إلى جفاء ورفض ظاهرين صريحين.
ربما غاب عن صاحب فكرة العمل أن منتديات ومقاهي الغربة في دمشق وعمان والقاهرة ولندن وستوكهولم وباريس وبروكسل وموسكو وغيرها كانت طوال سنوات البعد، لا تنقطع عن حديث الحنين عن مسارح العراق وفصول المعهد والأكاديمية الدراسية التي تعلم أجمل وأقدس الفنون، وسيرة أساتذة وفنانين كبار مثل جعفر السعدي ويوسف العاني وطه سالم وعوني كرومي وفاضل خليل وأسعد عبد الرزاق وجاسم العبودي وكثيرين غيرهم.
كذلك لا مجال للشك في أن الكثير من العراقيين كانوا يتابعون (حب وحرب) بجزئيه بحميمية وشوق كبيرين كمشاهدين يتعلمون مما يُقدم لهم من قبل نخبة من الفنانين المبدعين في فنهم وأدائهم. بعد صبر طويل كانت تطير فيه أشرطة الفيديو لمسرحيات عراقية خالدة قديمة وحديثة مثل (البستوكة، بغداد الأزل، بيت وخمس بيبان، نفوس، النخلة والجيران وغيرها) وأعمال تلفزيونية وسينمائية مثل (تحت موس الحلاق، قهوة عزاوي، عبود يغني، فيلم الحارس، بيوت في ذلك الزقاق، الجابي) من ستوكهولم والقاهرة والكويت إلى لندن ودمشق، تحملها حقيبة مسافر قادم أو مغادر بين مطارات القارات الخمس لتوفر بعض السعادة لعراقيي الخارج المتطيرين من التلوث، مرتادي الفنادق الفخمة، الذين يتناولون وجباتهم بالشوكة والسكين.
نحن يا سيدي المضروبين على رؤوسهم نتطلع مذهولين مبهورين بما يجري:
أغوات وشيوخ ورجال نفوذ سابقون، آكلو كتفٍ خبراء، وفاتحو أقفال وكناسو ثروات وصائدو خوف يشكلون جيشاً من المتربصين بما بقي وبما تغفله الأعين ويسقط من أيدي أولئك وهؤلاء. خلفهم نمل خبير في إعادة تأهيل الخردة والبرادة والفُتاة وتمهيد الوعثاء.
ما إن ننتبه حتى تدوخنا لطمة جديدة تعيدنا إلى ذهولنا الأول.
لسنا بحاجة إلى قبيلة أو جنسية أو ورقة مرور أو لغة جديدة. كل ما نحتاجه، أن لا نَحبّ أو نُحب في بلادنا من طرف واحد. ولا نريد أن نكون طرفاً آخر في معادلة العراق، أي بعد علامة المساواة. بل نريد أن نكون في قلب المعادلة، دافعين ضريبتها، كما تفعل الغالبية.
التأثير المدروس
يقول الفنان بهجت الجبوري بمرارة: إنه وزملاءه كانوا يأملون في شد انتباه الناس إلى ما يجري في البلاد فعلاً، وكانوا يسعون إلى تحريك الشارع من خلال نقد الأوضاع السائدة، لكنه اكتشف أنه في وادٍ والناس في وادٍ آخر، مشغولون بحياتهم وهمومهم اليومية، وضرب مثلاً في مشهد له في الجزء الأول من المسلسل شاركته فيه الفنانة القديرة زهرة الربيعي التي لعبت دور زوجته أم تغريد. يقدمان خلاله حواراً ساخراً، يصف فيه الديمقراطية الجديدة المستوردة الملفوفة بورق السيلوفين التي جاء بها المحتل وأفندية العهد الجديد من الخارج، أقل ما نقول عنه، إنه حوار ضعيف وساذج يمكن أن يثير انتباهه ساخرة لا أكثر، لكنه لا يحرك الناس كما أراد فناننا المتميز والعمل الدرامي ككل، لأسباب لا تجهلها أسرة حب وحرب. منها، أن الحوار لم يدرس بعقلية الفريق حتماً وإنما وضع على عجل على لسان الفنان الجبوري في مشهد كان بمقدور الفريق تطويره وتهذيبه وإغناؤه في جلسة نقاش دقيق وناضج لخلق القناعة الكافية لدى المتلقي بضرورة التغيير، يشارك فيه فريق العمل الذي ترك لدى الرائي انطباعاً أكيداً في حرصه على حياة الناس، وقدراته الإبداعية وتكامله وتجانسه. لكننا في عصر العجلة كما يبدو، ولا أقول في عصر السرعة.
يضاف إلى ذلك مشهده مع المدير العام المتغطرس القادم من الخارج المتوجس من التلوث البيئي في مؤسسته. هذا المشهد إضافة إلى مشاهد ناقدة أخرى بطلها قاسم الملاك وناهي مهدي وفنانون آخرون كانت بمثابة عقوبة جماعية ورفض بيّن، وإدانة لكل من تغرب خارج العراق مجبراً كان أو مختاراً. فقد أوحت تلك المشاهد بأن هؤلاء المغتربين مثل صف من الكراسي المتشابهة المصفوفة في دور السينما، كلها مصنوعة من ذات المادة وذات الحجم والارتفاع وبذات اللون كأي نتاج صناعي واسع لفظته ماكينة الغربة، كلهم من ذوي الياقات البيض متعجرفون، مدعون وسلبيون. وربما أكون ظالماً في القول: إن تلك المشاهد رسّبت في داخلي كواحد من تلك الكراسي شعوراً بالغربة أقسى مما عانيته عملياً في أكثر من بلد طوال أكثر من ربع قرن، وأرجو أن يكون ذلك الشعور كاذباً. كان الكثير من المغتربين يطمح بعبارات تمسح جملاً امتلأت بها آذانهم وقلوبهم وملأتها مرارة في بلاد لم تكن ولن تصير بلادهم. من قبيل: (عد إلى بلدك، لا تشاركنا الرزق يا غريب). وكانت أقسى عبارة تتردد في بلد يلهج إعلامه بالقومية وكرم الضيافة ليل نهار، وقد سمعها الكثير من المتغربين تقول: (في هذا البلد أكثر من شحاذ من أبنائه الأصليين، وهو أولى به من الغرباء).
فاقد الشيء
نجح الحوار في إثارة أسئلة من قبيل: هل أن شخصية سلبية متهافتة تستفيد من كل الأوضاع وتلعب أكثر من لعبة فاسدة كشخصية ربيع مؤهلة للعب دور الناقد الصادق لأوضاع اجتماعية وسياسية تخلق الفرص له ولشريحته في النمو والإثراء؟ وهل يمكن وضع جمل ناقدة على لسان شخصية مخمورة كالتي لعبها الفنان بهجت الجبوري؟ وأين هذا الفنان الذي أتاح لنا فكُّ الحصار عن الدراما التلفزيونية العراقية فرصةَ مشاهدة أعمال متميزة سابقة له، أين هو الآن في (حب وحرب)؟ هذا السؤال موجه إلى كاتب المادة الدرامية وليس إلى الفنان الجبوري.
أما ما يمكن أن نسجله لصالح العمل فهو نجاحه في إثارة خوف يوحي به العمل ككل على مُثُلٍ أصيلة في المجتمع العراقي. مثل الأواصر الحميمة بين الجيران والغيرة على بعضهم البعض والذي لعبه الفنانان أمل طه وعدي عبد الستار اللذان جسدا دور الأسرة الصغيرة وعلاقتها بالجار الحميم فوزي الذي لعبه بطل العمل قاسم الملاك.
أماني أحمد وخطيبته لبنى التي لعبت دورها الفنانة الشابة دزدمونة، وعلاقة الحب التي جمعتهما.
طموح سناء واستقبالها للحياة كأم وسيدة متوسطة السن، التي لعبت دورها الفنانة إنعام الربيعي.
طيبة القادم من الريف إلى بغداد وتلقائيته وبساطته التي شدتنا لقدرة الفنان ناهي مهدي.
كانت أدوارهم ومشاهدهم الواحة التي تنقذنا من أجواء الحزن والكآبة، والمروحة التي تعيد للعمل والمشاهد توازنه. وأكثر من ذلك، ما شدنا إلى العمل هو شباب إحسان دعدوش الذي يجسد عالماً من الجمال لا غنى عنه ولا تطاق الحياة دونه. فكان دور هذا الفنان المتميز هو ظلال البستان في حب وحرب. ينطبق ذلك على دور فاتن الذي لعبته الفنانة نغم السلطاني.
نجح العمل أيضاً في إثارة الخوف من الفساد المستشري في أجهزة الدولة الجديدة، كجهاز الشرطة المرتشي الذي صار لعبة في أيدي المحتالين واللصوص وتجار الحرب الجدد. ووقوع الإدارة في أيد تفتقد للأمانة والكفاءة والحرص، دون أن يشير العمل إلى أن المدرستين القديمة والجديدة تقتسمان مسؤولية هذه الإدارة وامتيازاتها.
مشهد مقترح
بالمقابل أقترح على فريق حب وحرب مشهداً حقيقياً بطله شاب عراقي في السابعة عشر من العمر، كان قد ولد في الخارج، أسمه مشتق من تاريخ العراق وحضارته القديمين، يمكن أن نسميه عراق، وهو اسم شائع يشترك فيه المئات من أبناء الجيل الثاني الذي ولد في الثمانينات والتسعينات من جملة أسماء بينها (سومر، بيدر، عشتار، بصرة، تموز، حنين، شوق وغيرها).
في زيارته الأولى للعراق يصطحبه خاله إلى مكان عملة (ورشة كبيرة لتصليح السيارات وبيع الأدوات الاحتياطية).
يقدم الخال الشاب إلى عماله بأنه قادم في التو من بلد أوروبي.
يعامل الشاب معاملة الضيف فيضيق بهذا الأسلوب في التعامل.
في فترة الغداء تقدم له وجبة خاصة (تكة وكباب مع ملحقاتها، شوكة وسكين، وسراحية ماء وقدح خاص نظيف)، بينما يجتمع الخال وعماله على (صينية كبيرة من النحاس، عليها تل من الرز العنبر، فوقه كمية كبيرة من مرقة الباميا الحمراء باللحم والثوم، وكمية كافية من الخبز والبصل والخضروات، وقدح واحد ليشرب منه الجميع).
يرمي الشاب (البراني) الشوكة والسكين. يتقدم نحو الحلقة المحيطة بصينية الطعام. يحشر نفسه بينهم ويتدافع ليفسحوا له مكاناً، ثم يطوي ردنيه رافعاً إياهما إلى زنده.
يمسك برأس بصل جاعلاً من الأرض سنداناً ويده المقبوضة مطرقة وبضربة يسحق البصل، ويوزعه على (الحبربش)، ثم يمد أصابعه الخمسة نحو الوليمة.
كان أول تعليق من أحد العمال:
(هل أنت متأكد من أن ابن شقيقتك قادم من بلد أوربي، وقد ولد وعاش هناك؟ أرى أنه قادم من مدينة الشعلة وربما الحرية).
هذه الحادثة دارت على ألسنة أناس كثيرين.
أليست هذه صورة زاهية لشاب عراقي من الداخل كان، أو من أي مكان آخر؟
ماذا لو حملت دراما حب وحرب مشهداً من هذا النوع بين مشاهدها الجميلة؟ والحياة لا تخلو من صور مشابهة.
نظرة أخيرة
ثمة واحات جميلة في العمل كنا نهرب إليها ونستعجل ظهور أبطالها (ناهي مهدي، إحسان دعدوش، قاسم الملاك ونغم السلطاني، عدي ودزدمونة، ميس قمر (أجمل فنانة تقول كلمة "أوي" في مجموعة دول الأوبك")، فوزي علي حسين في الجزء الأول، والفنانة الكبيرة إنعام الربيعي التي أعطاها العمل في جزئه الثاني مساحة معقولة وطور مساهمتها لتلعب دوراً مؤثراً ومتميزاً، لكنه لا يُظهر قدراتها الفنية كاملة باعتبارها فنانة قديرة وعريقة.
أما الفنان بهجت الجبوري فقد كان دوره أضيق من أن يفتح أمامه رئتي الإبداع بكل اتساعهما ليتنفس بحرية، لذلك اختنقت قدراته كفنان مطلوب في قالب قاس من الجدران منعته من فتح ذراعيه كاملتين.
ولا أبالغ لو أشرت إلى أن سيارة قاسم الملاك ودراجة إحسان دعدوش وأرجوحة دزدمونة، وصينية واستكانات ناهي مهدي مثلت هي الأخرى، وأعطيت دوراً أكبر من أدوار فنانين مهمين في العمل، كانوا يستحقون أكثر مما أتيح لهم.
رغم أن فناننا الجميل قاسم الملاك، كاتب وبطل القصة، جعلنا في قبيلة أخرى هي قبيلة (البرّانيين) وسخر كثيراً من مشاعرنا المحبة لبلد جميل اسمه العراق، وهي المشاعر التي لم يجدها في مديره العام وفي البعض الآخر من القادمين المختبئين بين سطور النص، إلا أنه قدم رؤاه الفكرية والفنية على هيئة سوط من الحرير عاقبنا به عقوبة جماعية. رغم ذلك أحببنا دراما (حب وحرب)، وتابعنا حلقاتها جميعاً، وكل فريق العمل الذي أنجز هذا العمل، ممتنين لكل ساعة جهد بذلت في ذلك العمل الجميل، ولحظة انتظار على حاجز في الطريق، وتحمّل عيونهم الجميلة (وهذا غزل) مشهد طائرة أمريكية في سماء البلاد، وآلية غريبة في شوارعها، معتزين بكل لحظة قلق وصبر وخطر مر بها مبدعونا الكبار الذين فتنوا عيوننا بمنظر بيت أو نخلة أو وجه عراقي حبيب.
وأخيراً، لا بأس من عمل جميل ممتع يترك بعض المرارة البريئة في نفوس شريحة واسعة من العراقيين الذين قهرتهم الغربة وتعودوا على مرارات الآخرين على أمل أن تبددها حلاوة ذوي القربى التي توقعناها وانتظرناها، لكننا افتقدناها في حب وحرب.
أما أجمل بطل في العمل، كان له حضوره الدائم في جميع مشاهد الدراما موضوع الحديث بجزئيها، فقد كان العراق. |